لست أدري إن كانت كلماتي الاعتراضية التي استقبلت بها الشاعر والأديب (الجازاني) المخضرم الأستاذ حجاب يحيى الحازمي في ليلة تكريمه بـ»إثنينية الخوجة» قبل ثلاثة أشهر.. هي التي عجلت بـ«دعوة» جامعتها لي لحضور احتفالها بتخريج الدفعة السادسة من طلبتها للعام الأكاديمي الحالي
1431-1432هـ (2010-2011م)؟ أم أنه لا علاقة لـ «الدعوة» بهذا (التواتر).. من أساسه، وأنها مجرد مصادفة بحتة.. أن يتلاقى هذا (التواتر) مع الدعوة، بعد الذي قلته في تلك الليلة.. خروجاً عن مألوف ما يقال فيها وفي أمثالها عادة من الإشادة بـ(الضيف) المُكَرَّم، والامتداح لأعماله الشعرية أو النثرية أو البحثية.. أو لإنجازاته الأدبية والثقافية بصفة عامة، خاصة وأنه كان رئيساً لناديها الأدبي أيام أن كانت رئاسات الأندية الأدبية.. أشبه ما تكون بـ(الفخرية) التي لا سقف لنهايتها، حيث قلت بعد أن رحبت بـ(الضيف) في عجالة.. لأستخلص مما كان يتداوله مثقفو ستينات وسبعينات القرن الماضي، من (أن «القاهرة».. تكتب، و«بيروت».. تطبع، و«بغداد».. تقرأ).. بأننا كنا نستطيع أن نقول آنذاك في المملكة.. وبـ«القياس» نفسه، بأن (جازان).. هي (بغدادنا) في أيام ذلك العز، فهي أكثر أجزاء الوطن قراءة واهتماماً بالأدب والشعر.. وربما تأتي معها بعض إمارات (الأطراف)، بل وإننا عرفنا (جازان) أو عرَّفت بنفسها (ماضياً) من خلال شاعرها الأشهر (محمد علي السنوسي) ومؤرخها الأكبر (محمد أحمد العقيلي).. و(لاحقاً) من خلال كاتبها الساخر وصحفيها اللامع (على العمير).. ولذلك لم يكن غريباً أن تمدنا من مخزونها (القرائي) هذا فيما بعد.. بهذه الكوكبة العريضة من الكتاب والصحفيين والأدباء الذين يملأون صحافتنا وثقافتنا وأنديتنا الأدبية من الدكتور علي عمر جابر إلى محمد عبدالواحد.. ومن الدكتور هاشم عبده هاشم والدكتورعمر يحيى إلى علوي طه الصافي إلى الدكتور حمود أبو طالب وإبراهيم مفتاح.. وغيرهم، لكننا هذه الليلة -وقد أعطيت لنفسي بعشوائية حق التحدث عن الحاضرين- لا نريد (شعراً)، ولا نريد نثراً.. ولكننا نريد (تقريراً) عن الواقع الذي تعيشه «جازان» المنطقة والمدينة؟ وأين هي فعلاً من كل هذه الأخبار السعيدة والبيضاء التي تتناقلها الصحافة عن تطورها وتقدمها والقفزات التي تحققها منذ أن قدم إليها أميرها الجديد (الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز)..؟ أم أن هذا الذي نقرأه ونسمعه.. ليس بأكثر من (كلام جرايد).. كما يقولون؟!
نريد أن نعرف «الحقيقة».. وليس مثلك.. من يعرفها، إن كانت واقعاً معاشاً بين الناس أم مجاملة لأمير المنطقة.. أم غير ذلك..؟.
ليستفيض الأستاذ الحازمي.. في شرح ما حدث من تطورات في المنطقة وفي مدينة جازان نفسها: تخطيطاً وإعماراً وتنمية.. خلال العشر سنوات الماضية، وأن واقعها اليوم يختلف مائة وثمانين درجة.. عن أمسها الذي كانت عليه، وأن إنشاء جامعة جازان في عام 1426هـ.. وقيامها تجميعاً وإنشاءً بأساتذتها وطلبتها وكلياتها.. ساعد على ذلك التطور، والأخذ بناصيته.. إلى ما فوق التصور قياساً بفترته الزمنية المحدودة، ليدوي تصفيق الحاضرين.. تقديراً للأستاذ الحازمي.. وتعبيراً عن فرحتهم وسعادتهم بما جاء في شرحه لما حدث.
لم يمض وقت طويل على تلك الليلة.. لأتلقى -على الفاكس- بعد قرابة شهرين منها دعوة كريمة من مدير جامعة (جازان) الأستاذ الدكتور محمد بن علي آل هيازع لحضور حفل تخريج دفعتها (السادسة)!! مساء الثلاثاء.. الرابع عشر من شهرنا الحالي بمقر الجامعة، وتحت رعاية أمير المنطقة.. مع اتصال هاتفي متزامن من قبل إدارة علاقاتها العامة، تسألني فيه: إن كانت حجوزاتها المقترحة.. تناسبني قدوماً وعودة؟ فقلت: «نعم» وبـ«الفم المليان».. دون أن أطلع على تفاصيلها، فلم يكن ذلك ليهمني.. فقد كنت مشتاقاً لزيارتها، ومتعجلاً لرؤية ما حدث فيها.. ربما تعويضاً عن سنوات ابتعادي التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً.. وربما اعتذار لأدبائها ومثقفيها ومعظمهم أصدقاء وأحبة إن لم يكن جميعهم، بل ولقرائها ممن محضوني محبتهم ومتابعتهم وتقديرهم.. فبادلتهم المحبة نفسها، والتقدير نفسه.. وإلى حد التضحية (إن جاز تسمية الأمر بذلك) بموقع رئيس تحرير مجلة الإعلام والاتصال بعد عامين وشهرين من إنشائها وصدورها.. ثمناً للتنديد بـ (مواقف) وزارة الصحة الباهتة وقيادتها من انتشار حمى الوادي المتصدع في منطقة (جازان).. عبر البعوض الناقل لها من تلك المواشي -المريضة التي سمح بدخولها- إلى (الإنسان).. والذي كتبه شعراً بعنوان (ناموسة) الصحفي الكاتب والشاعر (ثامر الميمان).. وأجزته، لأجد نفسي.. عند ظهيرة ذلك الثلاثاء بين مجموعة ضيوف الجامعة من أعضاء الشورى والأكاديميين والكتاب والإعلاميين في مطار (جازان).. وسط حفاوة شباب العلاقات العامة بالجامعة.. وهم يقلدون أعناق الجميع بعقود الفل (الفيفاوي) الأبيض الجميل، وقد تحول كل منا إلى (مهراجا) هندي من الدرجة الأولى.. يستحق أخذ الصور التذكارية إلى جانبه، وليصحبونا إلى النصف الشمالي الجديد من (جازان).. فنمر عبر ميادين فسيحة وشوارع واسعة مرصوفة تصطف على جانبيها أعمدة الإضاءة، ولننتهي إلى كورنيش (جازان) الشمالي الذي يجري العمل في إنشائه على قدم وساق.. حيث فندقنا (فندق جازان) الذي يعتبر أول فنادق الدرجة الممتازة والذي سيتبعه آخران (تحت التأسيس.. الآن)، والذي غمرتنا فيه أعداد أخرى.. من شباب العلاقات العامة ومن غيرهم (من الجازانيين).. بمحبتها وحميميتها وكأنهم يعرفوننا ونعرفهم منذ سنين، لتمتلئ ساعتي الظهيرة.. بـ«تراحيبهم» وسلاماتهم وحفاوتهم وأسئلتنا الجائعة، التي كانت إجاباتهم عنها جاهزة.. وكأنها متوقعة، وهو ما لمجعلني أنسى ثلاثة منهم: إبراهيم بكري.. رئيس العلاقات العامة سابقاً والمبتعث حالياً إلى الولايات المتحدة والعائد إلى (جازان) لقضاء إجازته السنوية.. فوجد جامعته في معمعان حفل التخرج هذا.. لينضم إليه طواعية، وإبراهيم الحازمي.. الذي قال إنني في مقام (جده).. فأخبرته بأنه أكبر (حفيد) في التاريخ، وأحمد سعيد.. الذي قاد عربتنا وأعطانا من المعلومات والإجابات لما سألنا ولما لم نسأل عنه.. ليصحبونا هم وسواهم إلى قاعة الطعام قرابة الثالثة.. لـ«الغداء»، وما يعقبه من راحة: استعداداً لحضور حفل التخرج عند الساعة السادسة والنصف مساءً.
لقد بدت مباني الجامعة عند وصولنا إليها مجتمعين في إحدى الحافلات.. مرتبة نظيفة، تحمل في ارتفاعات بعضها وانخفاض بعضها الآخر.. سمتاً أكاديمياً لا بهرجة ولا فقر فيه، وهي تحيط بباحة قاعة الاحتفالات.. التي كانت تغص بما يزيد عن نصف أعداد الخريجين وقد اصطفوا في نسق جميل وهم يرتدون أرواب أو (أوشحة) تخرجهم.. انتظاراً للحظة استدعائهم لـ (مسيرة الخريجين) التي ستمر أمام المنصة الرئيسية بـ «مقاعدها الفاخرة» الثلاث: لأمير المنطقة في أوسطها.. وإلى يمينه مدير الجامعة، وإلى يساره عميد شؤون القبول والتسجيل.. ثم تنتهي باختراق القاعة إلى نهايتها، وقد بدت لي وكأن مقاعدها تتسع لألف من الحضور أو أكثر وقد احتلها بقية الخريجين.. الذين كان في مقدمتهم خريجو كلية الطب حتى يؤدوا (قسم الطبيب) بعد إعلان النتائج من داخل القاعة.
كانت أجواء القاعة.. بأضوائها وابتسامات حضورها التي تحاصرك أينما نظرت.. تشع بفرح وبهجة هؤلاء الألفي ومائة وستة وثمانين خريجاً في داخلها وخارجها.. وبابتسامات السعادة والرضا التي كانت تكسو ملامح بعض أولياء أمور الخريجات البالغ عددهن أربعة آلاف وثمانمائة وواحد وثلاثين خريجة.. وقد حضروا نيابة عنهن، بينما كان يتوجب -إنصافاً- أن يكون للخريجات.. مكان في القاعة ولو بمدخل منفصل، ولكن ربما يتحقق ذلك في المدينة الجامعية الجديدة التي يجري إنشاؤها على شاطئ البحر بمساحة تسعة كيلومترات مربعة. ليشغلني في لحظات ترقب بدء الحفل.. تأمل قاعة الاحتفالات: سقفاً وأرضاً، جداراً وأعمدة، ليزداد تعجبي.. وتزداد سعادتي، فلم أر.. بدائية أو بداوة كنت أفترضها، ليتناهي.. إلى مسامع الجميع دوي تصفيق ترحيبي حاد، فأدركت أن الأمير.. لابد وأنه قد وصل وأن هذا التصفيق.. هو تعبير عن فرحة أولئك الخريجين المجتمعين خارج القاعة.. بـ«مقدمه»، لتستقبله موجة أخرى.. من التصفيق لا تقل عن سابقتها مع دخوله إلى القاعة.. وليبدأ الحفل بـ(السلام الملكي) فـ(مسيرة الخريجين) وهم يخبون في أوشحتهم وأروابهم أملاً وتطلعاً، فـ(القرآن الكريم)، فكلمة معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور محمد علي الهيازع.. الذي فاجأني شخصياً بمعلوماته عن عدد الخريجين والخريجات لهذا العام الذين ذكرتهم، وعن عدد طلبة وطالبات (جامعة جازان) إجمالاً الذي بلغ عددهم خمسة وخمسين ألف طالب وطالبة، وعن عدد الكليات التي تخرجوا أو تخرجن منها.. بأنها ثلاثة وعشرين كلية.. أكثر من ثلثيها كليات علمية تطبيقية يتطلبها سوق العمل، لأسأل من كان إلى جواري في المقعد: وما تخصص الأستاذ الدكتور الهيازع..؟
قال: كيمياء. فهززت رأسي، وكأني أقول: لقد بطل العجب..!.
ثم ارتقى.. منصة المتحدثين الطالب (عبدالرحمن خمج) ليلقي كلمة الخريجين، ليعقبه الطالب (محمد الضبع) ليلقي قصيدة شعرية جميلة لولا حماسة إلقائه.. فكان الجميل والمدهش معاً أن كليهما من خريجي كلية الهندسة، ليعلن في أعقاب ذلك عميد القبول والتسجيل.. الأستاذ الدكتور (حسن إسحاق) أسماء خريجي وخريجات هذا العام والتقديرات التي حصلوا وحصلن عليها، وسط التصفيق والتهاليل والزغاريد، لـ «أسرح» مع (قَسَمْ الطبيب) أو قَسَمْ أبي قراط والخريجون أو الأطباء الجدد يؤدونه.. متسائلاً: أنحن في (جازان) حقاً..!؟ وفي جامعتها الجديدة الشابة..!؟ وهؤلاء هم خريجوها وخريجاتها لهذا العام..؟ لأقول فيما بعد وكأنني أحدث نفسي: لقد صبَرتِ يا (جازان) طويلاً وكثيراً.. وقد آن أوان إنصافك. هنيئاً لك يا (جازان).. بـ(جامعتك)، وهنيئاً لك بأبنائك وبناتك من خريجيها وخريجاتها.
عند مخرج قاعة الاحتفالات.. كنت أسلِّم مع المسلِّمين على الأمير محمد، لأقول له مهنئاً وإلى جواره (نجم الحفل) الدكتور الهيازع: إن عشر سنوات.. ليست كثيرة على إنجاز بهذا المستوى في النهاية، لتصحبنا حافلتنا فيما بعد إلى «منتجع الجوري» البحري، الذي يتسنم أحد جبال امتدادات الساحل الجنوبي لـ(مدينة جازان).. للمشاركة في حفل العشاء الذي أقامته (الجامعة) على شرف ضيوف المناسبة، لأجد نفسي في وسط قاعة (المنتجع) الرحبة وإلى جوار الأستاذ محمد عبدالله الحميد.. رئيس نادي أبها الأدبي التاريخي، الذي كثيراً ما دعاني للمساهمة في مواسم ناديه الثقافية.. طوال رئاسته الجاذبة لأطياف الأدباء والمثقفين والباحثين، فسعادة وكيل أمير المنطقة الدكتور عبدالله السويد الذي سعدت بالتعرف عليه آنذاك، لأميل نحوه.. قائلاً: لقد كانت معاناة (جازان) المدينة والمنطقة.. طويلة وعسيرة، وقد مَنَّ الله عليها مؤخراً.. بـ (أميرها) الأمير محمد بن ناصر وحماسه للعمل والإنجاز، كما مَنَّ عليها بمدير جامعتها الدكتور محمد بن علي بن هيازع.. وحيويته وطموحه، ليصنعا تاريخاً جديداً لـ(جازان).. ينسيها وينسي أهلها وسكانها الماضي ومراراته؟.
ليجيبني بسعادة وزهو لا يخلوان من عتب: لكن الأمير أرهق نفسه وأرهقنا معه عملاً، طوال دوامه الطويل.. وخارجه، فهو يعشق العمل.. ولا يهمه التعب. لأقول له: حسناً فعل.. وحسناً فعلت، فـ «الراحة» لا تأتي -يا عزيزي- إلا بعد «التعب».
dar.almarsaa@hotmail.com