ما أجمل أن يكون الإنسان أداة بناء وإصلاح، ومفتاح خير، وأن يكون سعيه في الخير، وفي كل ما يحقق السعادة والرخاء للآخرين، وأن يكون منصفاً في مواقفه، عادلاً في أقواله، صائباً في رؤيته، مخلصاً في عمله وكل شأن من شؤون حياته، يضع نصب عينيه المصالح العامة ويحرص عليها، ويحاسب نفسه قبل أن يتفوه بكلمة أو يعزم على فعل، لأنه إن فعل خيراً فلن يندم عليه، لأنه سيُجازى بالخير والذكر الحسن، وإن فعل شراً فسوف يعض أصابع الندم، لأنه سيُجازى بالشر والذكر السيئ، وقديما قيل: «يزل الإنسان بقدمه ولا يزل بلسانه»، وقيل: «لسانك حصانك، إن صنته صانك»، وكثيرة هي المقولات التي تنبه إلى وجوب الاحتراز من اللسان وزلاته وسقطاته، فلسان الإنسان عدوه الأول، فكم من كلمة قالت لصاحبها دعني، وكم من مرة قال البعض يا ليتني ما قلت كذا وكذا، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم»؟
نعم البعض لا يُبالي بالكلمة يطلقها كذباً وزوراً وبهتاناً في مجلس عام بحق أخ له غائب، بل إنه يتعمد فتح فمه واسعاً، ويتحدث بصوت عالٍ، كي يسمعه كل من في المجلس، مستعيناً بكلمات حادة، وعبارات مثيرة، إمعاناً في التأثير وجذب الانتباه، وتوسيعاً لدائرة الإسماع والتبليغ، مجالس تحفها الشياطين، مجالس تنهش فيها الأعراض بألسنة حداد، وتُؤكل على موائدها لحومٌ ميتة كريهة المنظر والرائحة، والغريب في هذه المجالس أن الآذان فيها مرهفة مصغية لاستماع النقائص والعيوب، والأعين شاخصة منتظرة لرؤية المستور، والنفوس متلهفة متعطشة لمزيد من الأخبار الملفقة والأكاذيب، والأذهان متقدة تتلقف دون تمحيص أو تدقيق، والعقول يقظة فطنة تترقب المزيد، يا لها من مجالس بغيضة، مجالس تغتال فيها الفضائل، وتعمر فيها السيئات، مجالس في منتهى البؤس والشقاوة، مجالس تنتهك فيها الأستار، وتُستباح فيها المحرمات، وتُنهش فيها اللحوم حتى العظم، بشهية مفتوحة ونهم بمنتهى الشراسة، وتتوج بالكثير من الضحكات، والاستعداد لنشر ما تم الاستماع إليه مع المزيد من التلميح والتمليح والإضافة والمبالغة إمعاناً في توسيع دوائر الإعلام والإخبار، تبدأ موائد أكل لحوم البشر بواحد، لكن الشرر وحرق الحسنات يعم كل سامع وناقل، ويا ليت حرق الحسنات ينتهي بانتهاء الأكل على هذه الموائد الكريهة، أبداً إن حرق الحسنات يستمر حتى يتواجه الآكل والمأكول عند الحكم العدل سبحانه، فتصور أيها الآكل لحم أخيه كم من الحسنات تحرق، وكم من الآثام تسطر في سجل أعمالك، بئس التجارة وبئس الخسارة.
وهناك حالة أخرى، حالة أقل سوءاً من الحالة الأولى، لكنها تبقى حالة مرفوضة لأنها تغرد خارج السرب من أجل لفت الانتباه، وإدخال السرور على قلب السامع الذي غالباً ما يكون ذا سلطة ومكانة، وهنا مكمن الرفض، حيث يترتب على ما يظن أنه يفرح قلب ذي السلطة ويسره انعكاسات سلبية على عموم المجتمع، ولا سيما عندما يكون الحديث حول أركان مثلث الحياة اليومية الرئيسة، الصحة والتعليم والمعيشة، فهؤلاء المنافقون المتشدقون غالباً ما يصورون الواقع عكس حقيقته، حيث يجمّلون وينمّقون الواقع ويحسنونه بالكثير من مقولات تجافي الصدق والحقيقة، فمثلاً عندما يقول أحدهم ليس من الضروري أن يلتحق كل خريجي المرحلة الثانوية في الجامعات، هذه المقولة تهون على السامع خصوصاً إن كان من ذوي السلطة والقرار، أو من متحملي المسؤولية الذين يجب عليهم توفير فرص التعليم، هذه المقولة تجعله لا يأبه بأي مطالبة أو تذمر من عدم توفر فرصة لدخول الجامعة، وهذه المقولة وأخواتها هي التي أجّلت التوسع في فتح الجامعات وما تتطلبه من أعضاء هيئة تدريس ومبانٍ وغيرها، وبالتالي تسببت هذه المقولات في تكدس الطلاب خارج أسوار الجامعات لولا اللجوء إلى الابتعاث الخارجي، يحلو مثل هذا الكلام والمبالغة فيه في مجالس وجهاء المجتمع وعلية القوم، حيث يحلو الظهور بمظهر المخالف للتيار العام، فعندما يشكو الناس من قلة، يسارع إلى القول زوراً وبهتاناً أن الأمور تسير سيراً حسناً، وأن الجميع ينعم ويرفل في خير ونعيم، مردداً الله لا يغير علينا، وحنا أحسن من غيرنا، وغيرها من عبارات النفاق والتزلف، وللمعلومية فإن جل ذوي السلطة لا يطرب لمثل هذه العبارات، بل يعدها مثبطة للهمم، مضللة للرؤية، مدمرة للمعنويات، توسع الفجوة بين حاجات الناس التي يجب تلبيتها، وبين صانع القرار الذي قد يركن إلى هذه المقولات الجوفاء التي سرعان ما ينكشف عوارها وكذبها.
فهل نتقي الله فيما نقول؟ وبخاصة فيما له علاقة بالحقوق المجتمعية وكرامة الإنسان.
ab.moa@hotmail.com