وهل عرفت العراق غير التسخين السياسي منذ فجرها الأول حتى اليوم..؟
ظلت العراق عبر تاريخها الطويل، قطراً ساخناً سياسياً على الدوام، وذلك بفعل الانشقاقات والقتل والحروب والدمار، إضافة إلى مناخها الحار جداً في أشهر الصيف.
كانت ساخنة قبل الحجاج بن يوسف الثقفي، وساخنة من بعده، وساخنة قبل صدام حسين، وساخنة في عهده ومن بعده، وقدرها أن تظل كذلك إلى أن يشاء الله.
ومثلما نعمت العراق بمرحلة استقرار في ظل ولاية الحجاج بن يوسف عليها، فتحولت إلى بوابة للفتوح الإسلامية شرقاً وغرباً، شهدت بعد ذلك مرحلة استقرار تاريخي وازدهار ثقافي وعلمي مشهودة في العصر العباسي الأول خاصة، وأصبحت عاصمتها بغداد، مركز ثقل كبير في الدولة الإسلامية، ومن معالم تأثيرها الحضاري في تلك الفترة، ما كانت تقدمه لخدمة حجاج بيت الله الحرام، من توفير أجواء آمنة، وطرق سالكة، ومصادر مياه ونحوها، فتسهيل وتأمين درب الحاج العراقي الشهير، الذي يصل أرض السواد بالحجاز، منجز حضاري كبير، لا يستهان به في تلك الحقبة.
ومع أن هذا الدرب الذي يتفرع من الكوفة إلى الحجاز، ومن البصرة كذلك، قد عُرف قبل ظهور الإسلام، وكان مطروقاً ومعروفاً بهذا الاسم حتى ظهور الإسلام، إلا أن الإصلاحات التي أدخلت عليه زمن الدولة العباسية، أكسبته شهرة عظيمة، فقد راح الخلفاء وزوجاتهم ووصيفاتهن؛ يتسابقون على إضافة معمار مميز كل على طريقته، بما يخدم الحجيج على طول 1300 كلم بين الكوفة ومكة، ومثلها بين البصرة ومكة.
من أشهر الذين صرفوا على تسهيل درب الحاج العراقي واهتموا به، السيدة (زبيدة بنت جعفر)، زوج الخليفة هارون الرشيد، التي حفرت البئار، وبنت البرك، وشيدت المحطات، ووفرت السبل على درب الكوفة مكة، حتى حمل الدرب فيما بعد اسمها إلى اليوم، وامتدت يدها إلى فرع البصرة مكة، فصارت البرك الواقعة على درب البصرة مكة، تحمل اسم خديجة كذلك إلى اليوم.
عنيت بالبحث في منطقة التقاء دربي الحاج العراقي- الكوفة والبصرة- على وادي العقيق بعشيرة من شمالي الطائف، وهي منطقة جغرافية محصورة في مثلث بين (بسيان شرقاً، وأوطاس غرباً والمسلح شمالاً)- دراسة جغرافية أثرية أدبية- وعند تتبعي لما ورد من معلومات حول الدرب وتاريخه وأدبياته، وقعت على معلومة مهمة، أوردها (سيد عبد المجيد بكر) في كتابه: (الملامح الجغرافية لدروب الحجيج) ص18، نقلاً عن مجلة الدارة عدد ربيع الثاني 1398هـ ص12، والكتاب صادر عن تهامة ضمن سلسلة الكتاب الجامعي، ونص المعلومة هو: (أن الخليفة العباسي المهدي، اعتنى بطريق الحاج العراقي، حتى قيل بأن الثلج كان يُجلب للمهدي من العراق إلى مكة في حجه سنة 160هـ). وكانت خلافته بين 158هـ - 169هـ.
قد تبدو هذه المعلومة شاذة وصعبة التصديق، لكن الباحث المحايد، هو من يحترم أقوال الآخرين، خاصة التاريخية منها، فليس من النزاهة تجاهل معلومة ما لعدم تطابقها مع ما هو متصور في الذهن، وليس من العدل كذلك محاكمة الناقل إذا هو أخذ ممن سبقه، فناقل الكفر ليس بكافر كما يقولون- هذا إذا كان هناك كفر - والأولى من هذا كله، هو البحث عن صحة الرواية بطريقة علمية، ثم دراسة أحوال الناس في ذلك الزمان، الذين عرفوا -كما ورد في كتب كثيرة- طريقة تصنيع الثلج، لحاجتهم إليه، ووصلوا إلى معرفة كيفية تخزينه في صناديق تبريد محكمة الغلق، فهل وصلوا تبعاً لذلك، إلى طريقة للاحتفاظ به مدداً طويلة، ثم نقله إلى مسافات بعيدة..؟
وقعت بعد ذلك، على رواية أخرى مشابهة، أوردها الشيخ (أحمد بن إبراهيم الغزاوي) رحمه الله في (شذرات الذهب)، الشذرة رقم (656). قال نصاً: (مما روى الثقات، أن هارون الرشيد؛ كان يحمل معه الثلج من بغداد إلى مكة على بغال البريد كلما حج). وكان خليفة بين 170هـ-193هـ.
مثل هذه الرواية وتلك، لهذه المعلومة المهمة، تحمل أكثر من احتمال في طياتها، إلا أن تكون من وضع الباحثين المعاصرين، الذين نقلوا عمن سبقهم، وإذا هم لم يُمحِّصوا في صحة الرواية، ولم يناقشوا احتمال نقل ثلج من العاصمة العباسية إلى الحجاز من عدمه في تلك الفترة، فهذا لا يعني بالضرورة أن الرواية غير صحيحة، وبالتالي لا يعني أن الأوائل لم يعرفوا طريقة تحفظ على الثلج تماسكه حتى يصل إلى مكة، ومهمتنا هي البحث في صحة الرواية أولاً، ثم البحث في صحة المعلومة، على ضوء ما عرفه العرب المجاورون لحضارتي فارس والروم في تلك الفترة، من وسائل علمية متنوعة، قد تكون مسألة حفظ الثلج لمدد طويلة، ونقله مسافات بعيدة، واحدة منها. من يدري؟
هذا هو دور الباحثين الجادين اليوم، الذين ننتظر منهم رأياً فاصلاً في هذه المسألة.
assahm@maktoob.com