لا معنى للدخول في جدلية «همز» مفردة «التأريخ» أو تسهيلها؛ فربما التقينا في منطق مجيزي تبادل أدوارهما؛ فسواءٌ قلنا: التأريخ «أم «التاريخ» فنحن نتحدث عن أمكنة وأزمنةٍ وبشر، وقد أشار «الدكتور قسطنطين زريق 1909-2000م» في كتابه «نحن والتاريخ» إلى أن الكلمة «مهموزةً» تعني كتابة الحدث و»مسهلةً» تعني الحدثَ ذاته.
يختلط الاسمان مثلما يخلطُ المؤرخون حين يتناولون شخوصًا وحكاياتٍ تأثرت بالمواقف السياسيةِ في زمنٍ ما؛ ليصبح مؤرخو السلطانِ ذوي الأصواتِ الأعلى، وتوارت حقائقُ ووثائقُ وقراءاتٌ وسط غياب وتغييب مؤرخي الضفة الأخرى، وتبقى الذاكرة المنقولة بشهاداتها المختلفةِ عرضةً للرَّمسِ والطمس.
المشكلةُ تجيءُ من انقسام مؤرخي حقبة معينة حول رموزٍ وأحداث دون وجود رؤيةٍ منهجيةٍ موضوعيةٍ تضعُ أولاء في مقاماتهم البشرية المعرضةِ للصحيحِ والخاطئ ودون حاجةٍ للمراوحة بين حدَّي «التقديس والتدنيس»، ومن المؤكد أن هذا الاضطراب يطولُ - بصورةٍ أخصَّ - فترات الفتن المختلفَ فيها وحولها؛ ما يجعلنا مرتهنين لأقوالٍ غير محايدةٍ بالضرورة، مثلما يطول حقبًا «استرخائيةً» يراد فيها تصنيفٌ وتصنيمٌ.
يجني بعضُ الباحثين؛ فينالون من الحقائق المعاينةِ للأحياء، وقبل سنوات أنجز باحثٌ رسالة ماجستير عن إحدى المدن «النجدية»، وقال فيها: إنهم يختمون إشارتهم للمرأة بعبارة «أكرمكم الله»، وغضب الناسُ، ومعهم حقٌ؛ فلم يعهدوا - في حياتهم وآبائهم - أن عبرت هذه الجملة لأسماعهم وإن لم ينفوا وجودها في بيئاتٍ أخرى قريبة وبعيدة، وفي ذلك دلالةٌ على تأثير الصورة الذهنية النمطية، لكن الكِتاب الذي احتوى الرسالة وُزِّع وانتشر، وسيأتي مؤرخٌ - بعد فترة - فينقل هذه المعلومة العنصريةَ؛ لتصبح سمةً لمنطقةٍ وربما لوطن.
في تأريخنا الشِّفاهي محطاتٌ معتمةٌ تحتاجُ لتجلية، وتحديدًا ما يمسُّ فترات القلاقل حين لا يسودُ بناءُ الدولة؛ حيث يكثر الهرج والمرج حول شخوص وحوادث وأسماءٍ ومسميات؛ فلا يستبين سبيلُ الحقيقة المطمورةِ داخل التجاذباتِ الـ»جيو- سياسية»، وتضيع كتبٌ وكتابات، وتحجب صورٌ وشهادات، ويسودُ «التخرص» وسائط التحليل والتدليل؛ بما يحمله من مبالغاتٍ مناوئةٍ للتأريخِ الرسمي أو متحمسةٍ له.
وهنا - كما في كل الأماكن - يُروى التاريخ بحكاياتٍ تفتقدُ التوافقَ الضروريَّ لقراءة المكان والزمان والإنسان، وحين نحكي عن التأريخ الثقافي فإن الاختلافات العلميةَ بين علماء الدين أول القرن العشرين أوجدت أحكامًا متجنيةً على فئام ومجاملةً سواهم؛ ما دفع المهتمين للبحث عن تصانيفهم مهما شطَّ مزارُها، وحين جمع الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله - «خزانة التواريخ النجدية» لم يتح لها النشر؛ فصار الناسُ يتبادلونها مصوَّرة، ولما لم يُؤذن لـ»معجم الشيخ محمد العبودي - حفظه الله - عن أسر بريدة» بالتوزيع التجاري وعاه المهتمون وتابعوه؛ ما يعني أن الرؤى التي لم يُردْ لها الظهور تمثل زاويةً واحدةً رغم وجود زوايا أُخرَ يفترض أن يكون لها قياسات وأبعاد.
الكتبُ المختفيةُ والكتابان الكبيران نماذج تحكي جنايتنا على التأريخ وجنايته علينا، وفيهما مناطقُ ونطاقاتٌ قابلةٌ للتفسيرات المتعددة، وحين يُقرأُ المُصادر والمنفيّ بحرية وسجال فإننا نضمن حضورًا للحقيقة لا التفافًا حولها؛ فلا أحد يملك الغد القادر «بنوه» على إعادة كتابة التاريخ بما يرونه حقًا.
سقط مؤرخو «القذافي ومبارك وابن علي والأسد وغيرِهم» مع أول هزةٍ طالت عروشهم، وبدأ كتبتها يتبرؤون منهم ومما سطروه، وفي هذا درسٌ لمن يظن أنه يمتلك «تأريخَ التاريخِ» كما يشتهي.
الموظفُ لا يصيرُ مؤرِّخًا.
ibrturkia@gmail.com