ومضة:
- أنا لا أعتبر قلبي مريضاً، ولو شهدت تقارير الأطباء بإصابة صمام، ثم صمام آخر فيه، ولكني انتحب حزناً عليه إذا ما أصابه مرض الحقد والحسد، وانقلبت موازين الحق فيه إلى موازين غير عادلة، إنه إذ ذاك قلب مريض متعفن نتن، ولو قالوا عنه إنه سليم.
في غلس الليل الأخير، ومع هبوب النسيم المعطر بأنفاس الفجر الأولى، جلس خلف مكتبه العتيق، بين أكوام الورق، وبيده قلم تملكه القلق، قلم حائر يريد أن يكتب، أن يتمرد على الخطأ، صمت رهيب يلف المكان، لا يكسره سوى صوت فيروز تغني: (ستي يا ستي اشتقت لك يا ستي...)، تذكر جدته، عادت إلى ذاكرته أيام شتاء لبنان البارد، حيث كانوا يتحلقون حول الموقد، طلبا للدفء، وللكستناء الشهية، عادت به الذكرى لجدته التي كانت تقص لهم قصص الشتاء المليئة بالحكم والأمثال بصوتها الحنون.
كانت الجدة دائماً تقول له بلهجتها اللبنانية: (شوف يا ستي لما تقدم السبت بيلحقه الأحد، أهم شي بهالدنيا أخلاقك العالية، ونبل تعاملك مع الناس، والناس للناس، وإن خليت بليت) وهذا الكلام إشارة إلى ضرورة المبادرة بالخير في التعامل مع الناس، والنتيجة الطبيعية لذلك هو أن تحصد الخير. آه يا جدتي لو أنك معنا في العصر الحالي لتغيرت آراؤك وأمثالك، فالزمن قد تغير، والأحوال تغيرت، والنتيجة الحتمية لهذا التغير هو تغير الناس، فلكل زمان أهله وناسه. انقلبت الموازين يا جدتي..
في زماننا أصبح القلب الطافح بحب الناس سببا لتحول قلوبهم عن قلبه الصافي الراقي النظيف..ليس هذا فقط، بل أصبح يتهم بالخفة، سهولة الانقياد، وتسول محبة الناس، أو ما نسميه بالعامية (الاتهام بالفضاوة).
انقلبت الموازين يا جدتي..
وعندما تألم هذا القلب وعانى الوحدة، الغربة، سوء الفهم، قرر أن يتمرد ويغير أسلوبه، ويستبدل المحبة بالبغض، ويستر عطفه عن الناس، ويجامل ويرائي، أتاه الناس يركضون وراءه، فالناس لا يحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبهم، والسهام التي تخرق صدورهم..
انقلبت الموازين يا جدتي..بالنهاية.. وبعد أن أعياه قلة الوفاء وفقدان الصدق، توصل إلى النتيجة التي أجبرته الحياة عليها، وهي أن يحصر اهتمامه وعطاءه بأشخاص معينين هم أهله، والمقربون جدا من الصادقين، ونفسه.فأهله والمقربون جدا من الصادقين ونفسه مسئولية تلزم التعهد الصادق بالرعاية والاهتمام والعطاء..
رحمك الله يا جدتي، لكَم أحِنُّ إليك، وأشتاق إلى حكاياك الجميلة، لكم أحتاج إليك وإلى صوتك والأمان. كم أحن إلى الصباح الباكر مع قهوتك والمذياع.
- الرياض