نشرت وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) خبراً يقول: (كشف تقريرٌ أعدّته الجمعيةُ الخيريةُ للتوعية بأضرار التدخين بمكة المكرّمة، غرب السعودية، أنّ نسبة المدخنات في السعودية تجاوزت 5.7 بالمائة من جملة الإناث بالمملكة؛ ليصل عددهنّ قرابة مليونٍ ومائة ألفِ مدخنة، الأمرُ الذي يجعل المملكةَ تحتل المرتبة الثانية خليجياً والخامسة عالمياً من حيث عدد النساء المدخنات). انتهى الخبر.
وهذا يؤكد أن مجتمعنا الذي يصر المحافظون على أنه مجتمع متميز، نقي، يختلف عن المجتمعات الأخرى، بسبب الرقابة الصارمة على المرأة، وكذلك على الرجل، هو في الحقيقة مثل أي مجتمع آخر؛ بل لن أكون مبالغاً لو قلت إنه (ربما) أشد في تفشي الأمراض الاجتماعية، والعادات السيئة، من المجتمعات الغريبة. في الغرب التدخين مسموح للرجال والنساء، وتقييده يأتي من منطلق ألا يضر بالآخرين، وإن امتنعوا عنه فليس لأسباب دينية، أو لكونه (عيباً) قد يمس بسمعة المرأة، كما هو الأمر في بلادنا، وإنما لأسباب محض صحية، بينما المنع في ثقافتنا يأتي من منطلقات اجتماعية وعرفية وربما دينية، إضافة -طبعاً- إلى الأسباب الصحية؛ وهذا يعني أن الرقابة والوصاية والتشديد وكذلك (الردع) لم يمنع نساء المملكة من أن يأتين في المرتبة الخامسة من حيث نسبة عدد المدخنات إلى نسبة عدد السكان عالمياً؛ وهو بالمناسبة رقمٌ مخيف.
عقلية المنع والتتبع والرقابة كوسيلة لفرض فكرة ما، أي فكرة، لا يمكن أن تأتي ثمارها ما لم يكن هناك (وعي) أولاً، يُشكل بالنسبة للإنسان رادعاً ذاتياً عن ارتكاب مثل هذه الممنوعات، بغض النظر عن كونها صحية أو اجتماعية أو أخلاقية؛ فالرادع يجب أن يكون من حيث المبدأ قادماً من (الداخل)، من داخل الإنسان نفسه، أما الرادع الخارجي فيأتي كمساعد، وفي الدرجة الثانية. ثقافتنا، لا تؤمن -للأسف- بالرادع الداخلي بقدر ما تؤمن بالرادع الخارجي. فالعقلية النمطية السعودية تعتقد أن الإنسان، ذكراً كان أو أنثى، يجب أن تمارس عليه (وصاية) ورقابة، وتتبع، وتجسس، وتخويف، وإلا فإنه بالضرورة سينحرف؛ وهذه الوصاية تمتد إلى التدخل في كل شئونه الخاصة، بل وإلى نمط تفكيره، وأحياناً إلى ملابسه، وحتى ما يجب أن تكون عليه علاقته بزوجته وأولاده. فقناعاته يجب أن تُملى عليه من الخارج، وواجباته يجب أن تملى عليه من الخارج، والمحظورات يجب -أيضاً- أن تملى عليه من الخارج؛ كل ذلك من أجل أن نكون من خلال هذه الإملاءات والضوابط والوصاية، وكذلك الفتاوى، (مجتمعاً فاضلاً)؛ في حين أن الأرقام الإحصائية التي تتسرب بين الحين والآخر من الجهات المهتمة بهذه القضايا، تثبت أننا رغم كل هذه القيود، والإملاءات، والردع، والمراقبة، والكم الهائل من الفتاوى، مثلنا مثل بقية العالم.
وليس لديّ أدنى شك في أننا لو أجرينا دراسات مماثلة، في مجالات أخرى، عن مدى (تفشي) كثير من الممنوعات، والأمراض الاجتماعية، وكذلك الأخلاقية، أياً كان نوعها، في مجتمعنا، سنجد أن نسبة انتشارها بين السعوديين والسعوديات لا تختلف (أبداً) عن انتشارها في بقية العالم، إن لم تكن أكثر؛ فنحن جزء من العالم، نتأثر به وبأمراضه مثل أيّ مجتمع آخر، ومن يعتقد أن لدينا (حصانة)، أو يجب أن (نصنع) لنا حصانة بالقوة، أو بالردع، أو بالتقوقع، فقد طلب مستحيلاً.
لذلك فإن حرص البعض الشديد على أن يتولوا هم بأنفسهم (الردع)، والرقابة، وتتبع الناس، و(التجسس)، عليهم، والتنقيب عن أخطائهم، بحجة حماية المجتمع من الانحرافات، هو في باعثه الحقيقي ليس لحماية المجتمع كما يزعمون، بقدر ما هو حرص على تكريس وصايتهم، وترسيخ قوتهم وسطوتهم وسلطتهم ونفوذهم، وإن تذرعوا ذراً للرماد في العيون بحماية أخلاق المجتمع.
إلى اللقاء،