لا أريد أن أتناول في معرض حديثي عن جريدة الجزيرة وعلاقتها بأبي الجانب التأريخي أو التوثيقي، لأنه باعتقادي هناك من هو أكثر كفاءة مني، وأكثر قدرة على رصد وتتبع المسيرة الصحفية لجريدة الجزيرة من منظور علمي وبصورة دقيقة وشاملة.
ولكنني قد أكون شاهدا من نوع آخر، شاهد قدر له أن يرى مساحات كبيرة من الداخل، شخص هيأ له القدر مقعداً جعله يطل على الغرف والردهات الداخلية... بل يولد وينشأ بين جنباتها.
مرآة الذاكرة السحيقة تجلب لي رائحة شجيرة الياسمين التي كانت تتسلق الواجهة الشمالية لبيتنا في حي (الملز)، فكان هو هناك بداخل المشهد، كان من النادر أن أراه دون كتاب بين يديه، مما جعل خيال طفولتي يصور الكتاب كأحد أعضاء جسده، لا أستطيع أن أنفذ بذاكرتي بصورة أعمق، فلم أعد أرى سوى فراغات مسطحة، لكن يقيني يجلبه بصورة أستحضرها فأرى بأنه لم يكن قريباً ملازماً أو دائم التواجد، لكنه في المقابل كان ذا حضور طاغ، ذلك الحضور القوي المهيمن، ما بين ثنائية الحضور والغياب كانت هناك مسافة، مسافة جُعلِت لتنبت فوقها القصص وتحتشد الروايات بحيث إنها كانت تتخذ شكل الأحدوثة الغرائبية فعمتي (طرفة خميسة) يرحمها الله (تلك المرأة الاستثنائية داخل قوانين عصرها) كانت تقص علينا الكثير من هذه الروايات التي أذكر منها إن إحدى بنات جيرانهم في بيتهم القديم في الدرعية قد حلمت بأن (أم الخميس) التي هي جدتي لأبي، قد أنجبت سيفاً مشرعاً، في ذلك الوقت نفسه الذي كانت تراود جدتي أوجاع مخاضها في أبي.
ذلك النوع من الروايات التي مر الكثير منها على مسمعي، كان يشاركها أشياء أخرى كنت أراها تتجسد أمامي، فتجعل تلك المسافة بيني وبينه والتي تتراوح بين الحضور والغياب (غابة من السحر).
أذكر في مكتبته التي كانت عبارة عن جدران مرصوفة بالكتب من الأرض إلى السقف تلك الكتب التي أمضى جل عمره في جمعها وتنظيمها والحدب عليها وفي زاوية من نفس تلك المكتبة كان هناك بنادق الصيد، فهو كان مولعاً بالصيد! بنادق ما زالت أسماؤها تتردد في ذاكرتي (أم خمس- رشاش - شوزن) كانت تقف متجاورة في منظر مهيب يبعث في النفس الرهبة وأذكر أيضاً أنني حين كنت أراها كنت أذكر فوراً شعار منظمة (فتح) العاصفة حيث اليد التي تقبض على مشعل أو لربما حزمة بنادق.
بالطبع كان يرافق هذا أحاديثه التي لا تنقطع عن فلسطين السليبة، إضافة إلى صور متعددة له برفقة ياسر عرفات، عندما التقى بصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله في مدينة الرياض وجميع الحماس الوطني الذي كان يرافق القضية الفلسطينية آنذاك.
مترادفات جمة كانت تتجاور لتكونه بداخلي، أما علاقته مع الصحراء فهي إحدى القواسم المشتركة المتممة لتفاصيل الصورة، حيث الكتب والتاريخ وإرث الصحراء وبطولات العرب لم يستجلبها من عمق التاريخ لتبقى نائية على مستوى النظرية أو الفكرة المجردة، بل كان يتمثلها في أدق تفاصيل حياته، فإن كانت المدينة قد فرضت عليه واجباتها وشروطها وأنظمتها، إلا أنه جعل عطلة نهاية الأسبوع أو أي عطلة تصادفه للصحراء! وفي إحدى تلك العطل رافقناه، وما برحت أذكر الصباحات الخلوية المضببة بالمطر والطل حين تختار (نجد) أن تنتشي فتغدق، وقتها سكنا في خيام مجاورة لعائلة بدوية تمتلك قطيعاً من الماشية، وفجأة قيل إن هناك حيواناً كاسراً يسطو على الماشية قد يكون ذئباً أو ضبعة، لا أذكر جميع التفاصيل التي رافقت كل هذا، ولكن الذي أذكره بوضوح، وظل يسطع في ذاكرتي فلا يندمل، كونه اتخذ له خيمة قصية ووضع حولها مصائد ولحوم، وقبع هناك طوال الليل يترقب الضبعة، بينما أذكر بأنني بقيت أنتفض طوال ليلي خوفاً عليه، وأخذت تمر بي حكاية (ليلى والذئب) ومن ثم الصياد الشجاع، والنعجة التي تاهت عن القطيع، وخرافات لا تنتهي استجلبها خوفي عليه تلك الليلة.
وحتى تلك المرحلة كنت أظن بأن هذه هي الخصائص والمميزات التي يحملها كل أب في العالم، وأن الجميع يمتلكون آباء كالسيوف، ويقتلون الوحوش!! ولكن حينما أخذت مداركي في التبلور وبدأت تنفتح على مساحات وطاقات أكبر في حيز المكان والزمان- أخذ يتكشف لي كم هو وحيد ونادر وعلى مسافة مني يحتشد فوقها سير وبطولات.
هل أسرفت؟ هل لأنه أبي؟ لا أدري ولكنني شاهد الردهات والغرف الداخلية، أحاول أن أنضبط في مواقع المؤرخ الملتزم بغرض عقلنة مغامرة العواطف.
يقول في بيتين من الشعر يلخص بهما فلسفته في الحياة:
ليس الحياة كما توهم جاهل
عيش الكفاف ومستوى محدوداً
إن الحياة هي الصراع فكن بها
أسداً يصارع أذؤباً وأسوداً
وعندما أخذت أردد هذين البيتين في مرحلة الصبا المبكر، استرجعت حادثة الخيمة القصية التي نصبها وقبع يخاتل وحش الماشية، إنه يعيش داخل قصيدته التراثية بإخلاص جليل ذلك الإخلاص الذي كان لشعراء العصور الذهبية عندما كانت القصيدة ليست ذاتاً علوية منفصلة عن الشاعر بل هي فرس وكتاب وليل وبيداء.. بل جميع هذا.
في ذلك الصبا المبكر إذا كنا سنميل إلى (فرويد) نوعاً ما أجد أن أحلامي أصبحت تتبرج له، وظلالي الغامقة تترقب مصابيحه، كنت أريد أن أدير رأسه بقوة اتجاهي وأحوز على إعجابه (وإن كان سعيت إلى هذا بطريقتي الخاصة) إلا أن هذا لم يمنع كوني ما برحت مبهورة بهذا الرجل، وكلمة مبهورة هنا لا تحمل كماً من المبالغة لا سيما وأن عمر الانبهار قصير ويتبعه عادة إعجاب معقلن، (ولكنني بما إنني قد وصلت هذه الحدود من الصراحة) مازالت في أعماقي شهقة الانبهار الذي لا يكل لربما لأنه يحفظ القرآن كاملاً وتجويداً وإعراباً وتفسيراً، أو تراه لأنه يحفظ جميع ما قيل من أبيات في الشعر العربي وعندما أقول جميع فأنا أعنيها هنا، وأذكر في برنامجه الإذاعي (من القائل) إن بعض المستمعين أخذوا يتحدونه بأبيات وحشية وغير متداولة في شكل من أشكال المنافسة الذكورية، وعلى الرغم من هذا كان يبزهم ويعرف قائلها، وبشكل غريب يمد يده ليلتقط الكتاب الذي يقبع فيه هذا البيت؟؟ فهل عندما يتحدثون عن العبقرية يكون للدماغ خصائص مشابهة؟ لا أدري لكم الحكم.. ولي النقل الصادق المجرد.
له بيت في الطائف ينتجعه عندما يحل في (نجد) طباخ التمر، وهو يقطع المسافة بين الرياض والطائف عن طريق البر، وقد رافقته في إحدى تلك الرحلات.. وحظيت بإحدى أمزجته المتجلية فلم يبق جبل أو سهل أو وادٍالمجاز بين اليمامة والحجاز على جنبات الطريق دون أن يحدد اسمه ومن سكنه من القبائل العربية.
ومن وقف به من الشعراء، ومن بكى واستبكى، ومن قطن أو ظعن جميع هذا مصحوب بأدلة وشواهد من الأبيات الشعرية، سواء كان شعرا فصيحا أو شعبيا، ولم أكن أنا بصحبة جمعية جغرافية أو بعثة علمية بل كان هو يقوم بجميع هذه المهام وحيداً ولعل الذين اطلعوا على كتابه (المجاز بين اليمامة والحجاز) يلمسون هذا.
هل أضيف إلى ما سبق معرفته الفلكية، ومعرفته بالنجوم مواقعها ومواقيتها والرياح وأسمائها، الأنواء وتقلباتها، لا بأس من إضافة هذا الرافد أيضاً الذي يصب في البحر الكبير، ذلك البحر الذي عشقته سمكة نزقة ومتحدية، فأذكر مقالي الأول الذي نشر في جريدة الجزيرة تحت اسم (أميمة عبدالله) كنت أهرب من اسمه الكبير أخشى بأن يفسر بأنه بطاقة دخولي إلى ذلك العالم الذي كنت أراه شديد السطوة والمهابة ولابد من الإشارة هنا كإطار تاريخي بأن والدتي (رحمها الله وأسكنها فسيح جناته) كانت أول سيدة تكتب في جريدة الجزيرة، بل أول سيدة تكتب في صحيفة سعودية تحت توقيع (حواء) حيث كانت تحرر ركن المرأة في الجزيرة عندما كانت مجلة، هل هذا وسام آخر نعلقه فوق أكتاف الجندي النبيل الذي أتاح للمرأة صوتاً وركناً... ولأول مرة.. أول مواجهة وتحد؟؟ لكن التاريخ سيذكر له هذا طويلاً.
وأعود إلى بداياتي مع الجزيرة - حيث أخذ مقالي الأول له حيزاً متميزاً في زاوية يومية يتعاقبها بعض المحررين.. وفي البدايات.. كما هي البدايات دائماً يكون الإنسان هشاً قلقاً ومتعثراً.. لذا عندما بدأت أسمع بأن أبي من يكتب مقالاتي، أو لربما هو يراجعها ويصححها كان جميع هذا تحدياً صريحاً أخذ مني الوقت والجهد للبحث عن ملامح خاصة، أفق خاص - رحلة ذات تفاصيل مختلفة.. هذا وإلا ستغرق السمكة في حضرة البحر.
عندها أخذ البعض يسأله في المقابلات الصحفية.. ما رأيك بما تكتبه ابنتك أميمة؟ فكان يجيب بكل عفوية وبساطة: ليست راضياً عنه.. ولكن كان يرفق هذا بدعاء للتوفيق.. دعاء يطمئن رحلتي الضارية.
وقد يعلن عن عدم رضاه ببعض الصمت أو التجاهل.. ولكنه أبداً.. قط وأقولها بكل نصاعة ووضوح، لم يضع سداً واحداً في وجه رحلتي.. ولم يبعث بريح إلا لتدفع أشرعتي وتحميها، احتوت مكتبتي الخاصة على جميع أنواع الكتب.. كتب من أعماق التراث.. إلى أقصى... أقصى اليسار.. لم يناقشني بها - أو يبدى أدنى ملاحظة.. كان بما أوتي من حكمة ونظرة شاملة يعي تماماً.. أن القوة في المعرفة.. القوة بما أوتي من كلمة ونظرة شاملة يعي تماماً أن القوة في المعرفة.. القوة في الضياء في المواجهة في التصدي.. لا في الخوف والتعتيم والتوجس من أي غريب أو طارئ أو لربما مختلف.
كنت أقرأ وأكتب، أتحقق من نوايا مصيري، وأقارع المجهول بأدواتي التي تتراوح بين الهباء.. والرجاء، وهو هناك على مسافة ينبت فوقها قصص وسير وبطولات.
فقط قريباً وقريباً جداً، عندما حمل صغيري بين يديه، انحدرت من عينيه دمعة.. دمعة كبيرة ومتبلورة هتكت الحجب والأستار التي كانت تأخذه عني، ودمعة ارتوت منها تلك المسافة بعد دهور عطش وكان يأخذ صغيري في أيامه الأولى بين يديه ويربت على صراخه بقرآن كريم وأدعية، وحنان دافق يلائم استراحة المحارب من رحلة طويلة مهيبة ومترعة بالأحجيات.
هل أسرفت؟
هل تجاوزت في المديح والثناء؟
لا أدري..
ولكن الذي أدريه بأنني بذلت جل جهدي حتى أكون ناقلة أمينة على المستوى التأريخي.
وأن أبحث عن منظور واقعي وصادق، تماماً كدأبي عندما أدرس سيرته وأشعاره في كتاب (الأدب والنصوص) للصف الثالث ثانوي.
قد أكون في ما سبق قد أغفلت بعض القصص المهمة والتفاصيل الجانبية سعياً وراء الاختصار والشمولية.. لكنني كنت طوال الوقت أحاور الحقيقة ببعض من التفاصيل التي تهيأت لي عندما شغلت مقعداً في سيرة ومسيرة رجل عظيم.
هذه الكلمة كانت مشاركة من الزميلة أميمة الخميس في تكريم اثنينية الشيخ عثمان الصالح لوالدها الشيخ عبدالله بن خميس -رحمهما الله- وقد زودنا بها لنشرها الأستاذ بندر عثمان الصالح.