ما أكثر ما نسمع ونقرأ من تحليلات متباينة حول الأوضاع المتردّية التي تعانيها البلاد العربية اليوم!ولكن ما أقل أن نجد في هذا الضجيج الإعلاميِّ الصوتَ الذي يعرض الوجهة الشرعية المبنية على الدليل، مراعيا الاعتبار التاريخي الذي يُقايِس بين الأوضاع المتشابهة، ويستخلص من أحداث التاريخ السابقةِ العبرَ والدروسَ اللاحقة.
ومن أوضح ما يؤكد على ذلك أنك تجد الكلام في هذه الأوضاع من قبَل عدد من المُحلِّلين يُصَوِّرها بمظهر الحالة الفريدة غير المسبوقة، بما يتيح لهم أكبر فرصة للحديث عنها، وكأنها بحاجة إلى وصفة نادرة، يتبارى الأطباء في إظهار مهاراتهم في علاجها. وهذا الأسلوب من الطرح هو في نفسه سبب في تعقيد الأمور، لأنه- بكل سهولة- يجعل الثرثرة هي المظهر السائد عند الحديث عن هذه الأوضاع الدقيقة.
ولهذا لم يَعُد خافياً على أحد أن الناس سئموا كثرة ما سمعوا وقرؤوا حول هذه الأوضاع، لأن أكثره - بكل أسف - لا يحمل التوصيف السليم لأسباب هذه الأوضاع فضلا عن أن يحدد العلاج المبني علي التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي.
والحق أن المتأمل في أحوال أمّتنا إبّان فترات عزّها، ثم ما آلت إليه أحوالها عبر تاريخها - وصولاً إلى هذه المرحلة - يوقن أنه لا مخرج حقيقي من هذه الأوضاع إلا باستدراك الحكام والمحكومين معاً ما سلف من الأخطاء السابقة التي أثمرت هذه الأوضاع اللاحقة.
فإن من المؤكد أن أوضاعنا اليوم لا يمكن أن تكون وليدة الساعة؛ بل هي نتاج تراكم كثير من الأخطاء التي وقعت وظّلت بلا إصلاح، حتى ترسخ في الأذهان أنها غير قابلة للتغيير، بل ولا التفكير في التغيير. والسَّبْر الصحيح لهذه الأوضاع التي يعانيها العرب اليوم ينبغي أن نعيدها إلى أسباب رئيسة غير قابلة للتخرص والاحتمال؛ لأنها من الِكبَرِ بمكانٍ يستحيل معه أن تكون لأسباب يسيرة عابرة.
وعند إعادة هذه الأوضاع إلى أسبابها الحقيقية نكون قد بدأنا بوضع اليد على الداء أولاً، ومن ثَمّ نستطيع أن نحدد المسار السليم للعلاج بعون الله.
فأما الكلام الذي يصرفنا عن التشخيص الدقيق للداء فهو زيادة في العناء، وتشتيت سَمجٌ للأذهان.
والمتأمل في الحِقبة التي تعيشها البلاد العربية اليوم لا يستطيع أن يُغفِل صلتها بفترة الاحتلال البغيض، المُسمَّاة بالاستعمار.
وفي تلك الفترة عمَد المحتل - وعلى مدى عقود متطاولة - إلى ترسيخ أوضاع مغلوطة في شكل أنظمة ودساتير أثَّرت في مفاهيم هذه الأمة وهويَّتها تأثيراً يستعصى معه أن تُستقصى سلبيات تلك الجناية إلا بكلفة شديدة، نظراً لتعدد مجالات تلك الجناية وتشعّب آثارها، خاصة وأن المحتل تعمَّد ترسيخ بقاء تلك الأوضاع،حين أيقن بضرورة رحيله من البلدان التي احتلها، تماماً كما كان يدأب في إيجاد المشاكل الحدودية التي أبقاها من بعده، ليضمن استمرار النزاعات.
ومطالبات اليوم الواسعة بإزاحة الظلم وإصلاح الفساد، وما نجم عنها من أحوال صرنا بها في عالم اليوم موضعَ الفُرجة، ومحل تنافس وسائل الإعلام الأجنبية في الحصول علي السبق الإعلامي، أقول: كل ذلك من دلائل الفشل الذريع لتلك الدساتير التي أُسِّست أصولها في حِقبة مظلمة من تاريخ كثير من البلاد العربية، هي حِقْبة الاحتلال الأجنبي، والذي نشأت على إثر رحيله عدد من الأحزاب المتسلّطة التي اتخذت من الطابع الاستبدادي منهجاً ثابتاً في إدارة شئون عدد من البلاد العربية، وتطاول هذا الظلم لفترات متعاقبة عُومِل الناس فيها معاملةً بالغة القسوة، وهذا الوضع - وبالنظر إلى سنة الله في خلقه عبر التاريخ- لا يمكن أن يستمر، والغالب أن ينتهي نهاية غير محسوبة النتائج عند أكثر الناس.
أمام هذه الحقائق فلابد لاستنقاذ أوضاع هذه البلاد من تعديل الخطيئة القاتلة المتعلقة بالدساتير التي ذكرتُ آنفاً ظروف نشأتها السابقة واللاحقة، وذلك يستدعي اليوم - وعلى وجه السرعة - ضرورة تظافر الجهود لإصلاح الوضع وعدم استمراره؛ لأن عواقبه المرَّة باتت الآن جلية معلومة للجميع، مع أن البصير بالأحوال كان يعي أن الأمور ستصل يوماً ما إلى مثل ما وصلت إليه اليوم.
وعندما نكون في أمة عظيمة كهذه الأمة فلا ينبغي أن يَرِد هذا السؤال الجَهُول: ما البديل عن هذه الدساتير؟ فإن أمتنا هي أمة العدل والوسط الخيار بشهادة من لا تخطئ شهادته تعالى، حيث قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة 143) ولهذا لا ينبغي - ونحن الذين في يدنا الحَلُّ - أن نسأل عن الحَلّ! فنكون كما قيل:
كالعِيس في الصحراء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
وإذا كان التوصيف الخاطئ لهذه الأوضاع يُمثِّل إشكالاً يشتِت الأذهان، فإن اقتراح الحل الخاطئ، يُعد تعميقاً للتِّيه وترسيخاً للضياع، بما يجعل الانفراج أبعد منالاً وأشد مُحالاً، كتلك الحلول الجوفاء التي تُطرح وحاصلها مزيد من استمرار هذه الأمة العظيمة في مسلسل التبعيّة العمياء، وكأنها أمة لا تصلح إلا تابعة لا متبوعة، ومَقُودة لا قائدة، ولن يعسر عليك سماع هذه الحلول الجوفاء، لأنها هي التي تُبرز وتُشهر أكثر من غيرها بكل أسف، ويطرحها قوم يريدون التسلقّ على موجات المطالبة بالتغيير بهدف أن تسير نحو الوجهة الغربية، وكأن الأوضاع السائدة في الغرب هي الأنموذج المثالي الذي ينبغي أن يُحتذى في البلدان العربية، مع أن الجزء الأكبر من إشكالات البلاد العربية هو من الأساس عائد إلى فقدان الهويّة، والانجرار وراء السراب الغربي، الذي بات معلوماً لكل ذي لب أنه يتجه بالتدريج نحو الاضمحلال، حتى وإن كانت درجة هيمنته المادية اليوم قويّة عاتية.
ولقد أثبتت وقائع التاريخ القديم والحديث، وبما لا يدع مجالاً للشك أن بَتْر البشرية عن سبيل الله تعالى جعلها في حال من التخبّط المُزْري، بلغت به البشرية في القرون المتأخرة رقماً قياسياً في انطلاق ألوان من التيارات الفكرية المتناقضة التي كانت تحمل حتفها بظِلفها، تهتف الجماهير بمبادئ أحدها ردحاً من الزمن، ثم ما يلبث التيار المختار أن ينهار، ليُبنَى على أنقاضه تيار جديد، يُبشِّر رموزه بمستقبل مُشرق ليس له نظير،لكن ما يلبث هذا التيار الجديد أن يصاب بالداء الذي أصيب به سابقه، وهكذا في تَرنُّح مرير، بَذَلَ فيه كثيرون في هذا العالم زهرة شبابهم، وكامل طاقاتهم ومشاعرهم في سبل مجَّها الناس وسئموها، بعد أن أوصلتهم إلى الحضيض في جوانب شتى من حياتهم. وظلّت الدعوة لهذه المبادئ تتوالى، مقرونة بالوعود الكاذبة بالوصول إلى الأوضاع المثالية، في ظل انحطاط فظيع للقيم الكريمة، وانقلاب مجموعات من البشر إلى ذئاب صائلة أوصلت الإنسان إلى رعب لا ينقطع، ومظالم لا ترتفع، ومع ذلك كله يستمر الترويج للعدالة المنتظرة من قبل مروجي هذه المبادئ، ولا عجب فهي المقطوعة عن نور السماء، المبنية على الأساس المادي الصرف، فماذا يُنتظر منها إلا التخبط والضلال ومزيد من التعاسة لهذا الإنسان؟
وليس العجب أن يقع كل هذا في بلاد لا تعرف نور السماء، ولكن العجب أن يُروَّج لهذا في بلداننا العربية، وبأسلوب انتهازي رخيص يستثمر هذه الأوضاع المتردية، وكأن المراد ألا تخرج هذه البلدان من التِّيه، وأن تستمر أوضاعها المزرية في الانحطاط، في ظل لجََج مستديم، وجدل بيزنطي عقيم.
* أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود