أحيانا يبدو الوضع وكأن مسيراتنا العربية قوافل يتنازعها أكثر من دليل غير متفقين على الوجهة. وأحيانا كأنها كما يقول أهل الخليج: «نوخذايين في بليمة طبعوها» أي ربانين يتنازعان قيادة سفينة فتغرق.
والأمر أدهى في موسم الرياح والغبار !
من السهل على المراقب المتابع أن يرى أن الصراع محتدم على من يرفع الراية ليحدد وجهة الحشد .. والحشد يتضجر لأنه يرى نفسه يواصل السير في دائرة لا تقود إلا إلى المزيد من المراوحة.
ليس هناك عاقل يرضى عن مبدأ «مكانك راوح» سواء من مسؤول أو مثقف أو مدير أو موظف. ولكن التساؤلات التي تثيرها هذه الصيغة أكبر مما يبدو للوهلة الأولى مجرد ضيق من متزعمي وفود مساءلة المسؤول الرسمي لإقناعه بعجزه وتفوقهم, أومن أشباه المثقفين الذين يكتفون بالمناقشات السفسطائية والخطابات النارية والاعتراض الناقد للأوضاع والرافض لتفاصيلها ولمقترحات تصحيحها .. ثم يعجزون عن تقديم بدائل عملية لها ستنفع لو طبقت.
المطلوب حل ناجع دائم. لا يأتي قفزا خارج الجغرافيا والتاريخ لاستيراد وضع من خارج المكان واحتياجاته, أو لاسترداد وضع خارج الزمان متشبثين بالماضي. الحل الفعال يتطلب الاعتراف بقصور الحاضر, وتقبل فكرة التطور, والسعي الهادف لتحقيق وضع مستقبلي أفضل يعالج نواحي النقصان المفردة في إطار شمولي عاقل واع بأهدافه.
السؤال المهم هل يملك المنظرون صلاحية الفعل؟ أم يرغبون فقط في حرية التنابز بالألقاب؟ ورشق من يعارض آراءهم؟
والسؤال الأهم لماذا استبدلنا ساحة الفعل كفريق متداعم متفق على الوجهة والإستراتيجية, بساحة الكلام الصاخب والنبرة الإقصائية والصراع على من يملي رأيه على الجميع؟
والسؤال المصيري: هل الحل الفعال أن يرضخ المسؤول لضغوط التخلي عن دور صنع القرار الباتر لجذور الصراع, ويقبل أبسط إجراء وهو فرض منع التعبير إلا حسب حدود الالتزام بالتعليمات والمحذورات والمحظورات؟ ثم من سيفسر حدود الالتزام أو الخروج عنه لتحق على المتهم المدان عقوبة التجريم؟
إن ظاهرة الاعتراض والرفض دون تقديم بدائل عملية, هي ظاهرة عامة لا تقتصر على فئة دون أخرى في مجتمعنا الذي اعتاد ازدواجية الفصل بين معرفة الصحيح ومسؤولية ممارسته. يراها بعضهم السبيل الأخير للتنفيس عما يضايقنا؛ ويراها بعضهم شيئا من أضعف الإيمان. وقد يكون ما يضايقه غير ما ينتقد .. في افتقاد الجرأة يرفس الأضعف!
أما ظاهرة العجز عند تقديم وتوضيح البدائل فهي مسألة أخرى.
فعلا, ليس ذو الصوت الناعق هو من يتميز في اقتراح البدائل وتقديم الحلول, بل المتخصص القادر على احتواء رؤية شمولية لاحتياجات المجتمع. ثم لابد أن يأتي دور المسؤول والمواطن الذي يجرؤ على القيادة الإستراتيجية والريادة الاجتماعية المطلوبة للتغيير والتطوير والسير قدما, دون تردد أو تلفت للوراء, أو لما يحاصر الآخرين من الأعراف الخانقة؛ القيادي الجريء - مواطنا كان أو مسؤولا - ضروري كقدوة لغيره من الواقفين عندالمفترق ينتظرون افتتاح الطريق الجديد.
كل هذا وارد في الأوضاع الطبيعية؛ حيث ريادة الرجل الحكيم والمثقف المتخصص والمبادر الشجاع تعتبر بديهية لا يختلف عليها اثنان .. ويأتي دعمهم وتطبيق مرئياتهم وتكرار أفعالهم بديهية أخرى. ولكننا حاليا في أوضاعنا العربية لانعايش مجتمعا يوتوبيا بل مجتمعا اعتاد الظلمة والصمت يرهقه النور والصراخ والصراع على من يقرر الوجهة.. والمثقف لايملك غالبا إلا أسلحة التعبير. وغالبا يفتقر الى تعميد باستخدامها يثق بقدرته على التمييز بين الصحيح والضار؛ فهو دليل محاصر ممنوع حتى من أبسط أدواره دور « الشاهد على عصره». ثم نطلب منه شهادة على المجتمع والعصر مفصلة على تفضيلاتنا الفئوية, تأتي بتفاصيل متعارضة متناقضة حلالا وحراما, فتزيد الجو غبارا والوجهة إبهاما والرؤية إعتاما.