|
أديبنا الكبير عبدالله بن محمد بن خميس، كان عصامي النشأة لم يقف بتحصيله العلمي عند حدِّ المؤهل الذي ناله من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وإنما عمل على تثقيف نفسه وتوسيع آفاق فكره بالاطلاع العميق والقراءة الدائمة، والمتابعة المستمرة للعلوم والآداب في نطاق واسع على مختلف وسائل النشر من صحف ومجلات ودوريات ومؤلفات، وقد أتاحت له العصامية المتعمقة في نفسه مجالاً رحباً ليشق طريقه في الحياة: دارساً وشاعراً وأديباً. ومعلوم أن الفترة التي نشأ فيها هذا العصامي لم تكن حافلة بالمدارس كما هو الحال الآن، فقد كان التعليم في بداياته الأولى، ولم يكن الاتجاه نحو العلم مستهدفاً في ذاته ولا وسيلة لتطلعات مستقبلية، فلم يكن الإقبال عليه بالحجم الذي نراه في واقعنا المعاصر ولا عُشر معشاره، فقد كانت الأوضاع في ذلك العهد محدودة في كل المجالات، فكان الذي يعرف الكتابة والقراءة من الذين يشار إليهم بأنهم أصحاب مكانة مرموقة في المجتمع، وكان لطلبة العلم نصيب كبير من هذه النظرة التقديرية، وهي نظرة تحتفظ للعلم في ذاته بالإكبار والإجلال. وفي هذا المجتمع المحدود بدأ فارسنا خطواته الأولى فنشأ بالدرعية في كنف والده وهو أحد طلبة العلم، فقد كان إماماً وخطيباً في ذلك الوقت في نطاق بلدته، وفي هذا المحضن كانت نشأة أديبنا عبدالله وبداية علاقته بالحرف وتعامله مع الكلمة، فقد استهل دراسته الأولية على والده وكانت هذه هي البداية، ولكنها بطبيعة الحال لم تكن دراسة كافية ولكن حسبها أنها تشكل ومضات في الطريق الطويل نحو المعرفة، وكان هاجس الدراسة المنتظمة يراود تفكيره ولو أنه قد أمضى صباه وهو رهين أسوار الدرعية، وإن امتدت به المسافة فإلى مدينة الرياض، حتى انتهى به المسعى إلى الزواج المبكر الذي يمثل النهج السائد في المجتمعات في ذلك الوقت، والذي من خلاله تتواصل حلقات الحياة الاجتماعية.
ولعله كان ينظر إلى ما فُطر عليه من موهبة وما لديه من استعداد للتحصيل العلمي، وأنَّ وقوفه عند المستوى المدود الذي بلغه في ذلك الحين لا يتناسب مع ما يريد، ولا يلبي دوافعه الذاتية نحو وضع أفضل وأدوم، فظل يبحث في نفسه عن مخرج للحالة التي فرضتها ظروف كانت سائدة إذ ذاك، فكان التململ النفسي من ركود وضعه ومحدودية مجال تطلعاته، ولذا فقد عاوده ذلك الهاجس - نحو التحصيل العلمي - يلحّ عليه ويشغل ذهنه، ولذلك فعندما فُتحت مدرسة دار التوحيد في مدينة الطائف شدَّ الرحال إليها من الدرعية.. ومن بوادر التوفيق له وهو يبحث عن الدراسة النظامية أن كان يشاطره هذا الاهتمام زميله ورفيق دربه وصديق عمره: فهد المارك -تغمده الله برحمته- وكان نعم الرفيق في الدرب ونعم الخلّ الوفي في الحياة، وكان الاثنان من أوائل من التحق بهذه المدرسة العريقة التي خرجت - منذ تأسيسها قبل أكثر من نصف قرن من الزمان - أجيالاً متتابعة من العلماء والأدباء، وممن ساهموا في مختلف المجالات في هذه البلاد في تخصصات متنوعة واتجاهات متعددة. ولعل فهد المارك هو الذي بدأ الرحلة العلمية إلى الطائف للالتحاق بهذه المدرسة وهو قد تجاوز مرحلة الصبا، ودعا صاحبه إلى الالتحاق بها لما يربط بينهما من التوافق في الطموح والاتفاق في التطلع إلى آفاق متسامية. ولأن من طبيعة (المارك) حب المغامرة واقتحام المجهول: لذلك نراه لا يكمل دراسته في دار التوحيد وإنما يتركها لما يرى أنه أهم من الدراسة وأجدى من التحصيل، ذلك أنه يرى في نفسه أنه يملك طاقة الجهاد في فلسطين، وقد آمن بأهمية القضية فتطوع للقتال هناك على أرض الفداء، فحمل سلاحه وتوكل على ربه ورجا أن ينتصر أو يستشهد، وبهذه الروح العالية توجه إلى ميدان الجهاد في فلسطين، وإذا كانت هذه النقلة من الدراسة إلى القتال تُعَدُّ مغامرة مجهولة النتائج لابد من وضع حسابات كثيرة لها قبل الإقدام عليها: فإن بطلنا هذا لا يحسب للموت أي حساب فهو يُقدم على فعل ما يؤمن به مهما كانت النتائج، فكان تطوعه للجهاد في ساحة الشرف -رحمه الله تعالى- وكانت القضية الفلسطينية تتجاذبها تيارات متعددة الغايات وتشدها أطراف متباينة الاتجاهات، وكان للتيار الإسلامي دور بارز في هذا المجال قبل أن يتحول مساره وتحكمه تطورات لم تكن في حسبان المخلصين للقضية، فقد حملت النهاية مأساة هزيمة العرب أمام الصهيونية ومؤيديها، ولقد كان هذا المجاهد (المارك) شجااً مؤمناً صادق النية مخلص القصد، ولاهتمامه بالجهاد فقد استطاع تكوين مجموعة من الأفراد الذين آمنوا بفكرته وانضموا إلى مسيرته، وهو بطبعه وشهامته يفرض حبه على مَنْ عرفه عن قرب أو التقى معه على هدف. لأنه يتمتع بروح مثالية، فهو صاحب نخوة وشجاعة، كريم النفس صدوق يتحرَّى الصدق في كل ما يروي ويكتب، ويقول الحق ولو على نفسه، وبهذه الروح التي تعشق المجد، وتتمثل السجايا الحميدة: استطاع قيادة مجموعة مباركة للاستشهاد في فلسطين، وبهمته العالية تمكن من جمع المال والأسلحة بمساندة المسؤولين في هذه البلاد، وقد عاد أفراد هذه المجموعة بعد انتهاء الحرب إلى المملكة، وجرى ضمهم إلى الخدمة العسكرية لأنهم سعوديون أصلاً أو من أصول سعودية، أما هو فقد التحق بسلك الخارجية.. هذا استطراد اقتضته الصلة الأخوية بينه وبين زميله بن خميس وكل منهما جدير بكل ثناء مستطاب.
***
أما موقف الأستاذ عبدالله بن خميس من المشاركة في الحرب في فلسطين وإيثاره البقاء على مقاعد الدراسة، فإنه يشارك زميله الإيمان بالجهاد إلى جانب الاهتمام بالقضية، لكنه يدرك أن وراء القضية ضباباً كثيفاً يحول دون الرؤية الواضحة التي يتطلع إليها جميع العرب في قضية تهمهم جميعاً، وهو من منظوره يرى أن العمل الفردي مهما كان حجمه لن يؤدي إلى نتيجة مرضية، فكان استمراره في دراسته أجدى وإن ظلت مشاعره كلها موظفة لصالح القضية طيلة عمره، لكنه كسب الوقت بالتخرج من دار التوحيد وبعدها كلية الشريعة بمكة المكرمة، وقد وقف زميله فهد في تحصيله العلمي حيث كان، لا نشغاله بالجهاد، على أنه بطموحه المتوثب استطاع بجهده الشخصي وحوافزه الذاتيه أن يكثر من القراءة حتى تمكن من أن يصدر مؤلفات في مجالات مختلفة أهمها كتابه: (من شيم العرب) في عدة مجلدات إلى جانب كتاباته في الصحف، فلم تتعطل ملكته ولم يخسر موهبته بانصرافه عن الدراسة.
وهو يلتقي مع زميله بن خميس في مجالات كثيرة من أهمها: أن نشأة الاثنين متماثلة في بداياتها وفي إطارها العام والفوارق بينهما في هذه النشأة محدودة، فقد كانت نشأتهما المبكرة في ظل ظروف اقتصادية شحيحة كانت تمر بها كثير من البلدان العربية ولاسيما الجزيرة العربية بالذات، مما لا يتيح المجال لوصف البيئة في تلك الفترة بأي لون من ألوان الرفاهية، فكان عيش الكفاف هو السائد لدى أكثرية الأسر وبين كثير من أفراد المجتمع، إذن فتشابه النشأة المبكرة بين الاثنين تمثل حالة عامة يشترك فيها الكثيرون.. على أن من صور التوافق بينهما التقاءهما في عمل واحد يمثل بداية تعاملهما مع مجريات الحياة، وكان لدى كل منهما طموح يوفق بينهما في المسيرة ويوحد مفهوم النظرة للمستقبل لكليهما، وهذه النظرة الثنائية ونقاط الالتقاء بينهما: جددت رؤيتهما للحياة من منظور أوسع دائرةً وأبعد طموحاً، وكان السبيل القويم الذي يقودهما إلى الآفاق المستقبلية يتجسد في التزود من العلم وهو الذي يكون علامة استفهام كبيرة أمام طموحاتهما؟ والسؤال الذي يمكن طرحه هنا: كيف يكون ذلك وقد تزوج كل منهما ولم يصبح مسؤولاً عن نفسه فحسب وإنما عن زوجة اقترن بها وعن أولاد لابد أن يستعد لاستقبالهم؟ لكن هذا العامل على أهميته لم يثبط همة أي منهما ولم يحل بينه وبين تحقيق رغباته وطموحاته، فكان أن تحقق لهما الالتحاق بالمدرسة التي تضعهما على طريق النجاح في الحياة، على أنهما يشتركان في نوازع إسلامية وعربية وإنسانية عاشا في ظلها لم يفرّق بينهما سوى الموت، فقد سبق فهد المارك أخاه عبدالله بن خميس إلى الآخرة وسيجتمعان -إن شاء الله- في دار النعيم المقيم.
***
وينفرد الأستاذ عبدالله في مسيرة حياته الحافلة بتوسيع مداركه في الاطلاع وبناء شخصيته بالعلم، مما أتاح له المساهمة في مجالات عملية متعددة: تعليمية وإدارية، وكانت الثقافة الذاتية أهم أدواره الحياتيه التي برز فيها علمياً وأدبياً، فقد شارك في تولي بعض المناصب الإدارية لكنه ظل وفياً للكلمة مؤلفاً وكاتباً وشاعراً.. وحِس الشاعر يتجسم في كيانه، فهو شاعر مطبوع يقول الشعر بالعامية ويحفظ عن غيره من شعراء العامية الكثير منه. لكنه لم يشأ أن ينشر شعره العامي في ديوان يحمل اسمه، فهو وإن كان يشارك في بعض المناسبات الخاصة بشعر عامي بين أصدقائه ومحبيه، فإنه لا يرى لهذا الشعر الخلود في مطبوعات، كما يفعل من هم أقل منه شاعرية وأدنى إدراكاً في هذا المجال وفيما سواه، وإنما يعتز بشعره بالفصحى وقد عمل على نشره، وكما اشتهر بشاعريته فقد اشتهر ببحوثه العلمية ومؤلفاته العديدة في مجالات مختلفة من أبحاث العلم وصور الأدب، وقد أهلته ثقافته الواسعة أن يكون عضواً في مجمع اللغة العربية في مصر إلى جانب صلاته بالمجامع العلمية العربية الأخرى.
وقد أوردت ابنته أميمة الكاتبة المعروفة: في كلمة نشرتها بالمجلة العربية في عددها (264) الصادر لشهر محرم 1420هـ، جاء فيها وصفها لرحلة بمعية والدها بين الرياض والطائف حيث تقول: «وقد رافقته في إحدى تلك الرحلات وحظيت بأحد أمزجته المتجلية فلم يبق جبل أو سهل أو وادٍ على جنبات الطريق دون أن يحدد اسمه ومَنْ سكنه من القبائل العربية ومَنْ بكى واستبكى ومَنْ قطن أو ظعن: جميع هذا مصحوباً بأدلة وشواهد شعراً فصيحاً أو شعبياً، ولم أكن أنا بصحبة جمعية جغرافية أو بعثة علمية، بل كان هو يقوم بجميع هذه المهام وحيداً، ولعل الذين اطلعوا على كتابه: (المجاز بين اليمامة والحجاز) يلمسون هذا بوضوح، هل أضيف إلى ما سبق: معرفته بالنجوم ومواقعها ومواقيتها والرياح وأسمائها والأنواء وتقلباتها؟ لا بأس من إضافة هذا الرافد أيضاً الذي يصب في البحر الكبير».
وقد سبق أن أشرتُ فيما تقدم إلى ما تمور به روحه الوثابة الطموحة، وما يشتعل به فكره المتوقد من تطلع نحو المجد, جعله يقفز المسافات التي وقف عندها كثيرون غيره، فطواها هو في رحلة علمية دائبة ليصبح في مستوى ما حققه من مكاسب علمية وتراثية، وما تحقق له من مشاركات فاعلة في الحياة الفكرية والأدبية، فقد وظف كل أدواته العلمية وخبراته العملية لخدمة وطنه وأمته.
وللفقيد عليَّ يدٌ لا أنساها ما حييت، وكنت أنوه بها في مناسباتها: تلك اليد تتمثل في أنه - تغمده الله بواسع رحمته - عندما اعتزم الانتقال من الدرعية إلى الطائف للدراسة أعدَّ سيارة لهذا الانتقال للالتحاق بدار التوحيد، وعندما علم برغبتي في الالتحاق بها رحب بانتقالي معه، وكانت المواصلات والاتصالات شديدة الصعوبة في ذلك الوقت، والمسافات متباعدة لم تقربها الحضارة المعاصرة في بلادنا، وكانت الرحلة إلى الطائف في منتهى الصعوبة وغير متاحة لمن هو في مثل سني الصغير، ونفسي تتوق إلى الدراسة هناك والسبيل إليها عسير جداً، ولذلك قدرتُ له تلك اللفتة الوطنية الكريمة ولا أزال.. ومن دار التوحيد حصلت على أول مؤهل دراسي في حياتي: الشهادة الابتدائية التي كان لها في ذلك العهد شأن كبير في مجال العمل، كما أنها المفتاح في مجال التوسع في التعليم.
طيب الله ذكرك أيها الفقيد العزيز، ومن خلال آثاره العلمية والأدبية ستظل لهذا الأديب العصامي الكبير بصماته المرئية ماثلة في صفحات أدبنا المعاصر.