قدري وقدر جيلي من المنشغلين بالتاريخ وخدمة التراث -دراسة وتحقيقاً - وكذلك المنشغلين بالأدب والشعر والتاريخ ونشأة الصحافة - أن نشهد خلال خمسة عشر عاماً فقدان ألمع الرموز في هذه الميادين رموز الريادة، رموز العطاء، رموز الإبداع في الأزمنة الصعبة.
ففي صبيحة يوم الأربعاء 15-6-1432هـ نقلت الأخبار إلينا نبأ وفاة أحد أبرز تلك الرموز الشيخ الشاعر، والمؤرخ، والبلداني، والأديب، والصحافي عبدالله بن خميس ليلحق بقافلة من فقدناهم، الذين كان آخرهم مؤسس المدرسة النقدية السعودية الأستاذ عبدالله عبدالجبار الذي غادر دنيانا قبل عدة أسابيع بعد أن أسس مدرسة حديثة في النقد، وترك سجلاً خالداً في الدراسات الأدبية والنقدية، وقبله ممن أشاطرهم وإن كنت لاأرقى إلى مستواهم اهتماماً مشتركا في مجال الدراسات التاريخية وإن كانوا من جيل مختلف عن جيلي إلا أنهم كانوا لي ومن هم من جيلي أساتذة استحقوا الريادة مثل الشيخ حمد الجاسر علامة الجزيرة العربية، والشيخ محمد أحمد العقيلي مؤرخ وشاعر وأديب جازان، والشيخ هاشم النعيمي رائد محاولة كتابة تاريخ عسير والشيخ سعد ابن جنيدل مؤرخ عالية نجد، والأستاذ أحمد عبدالغفور عطار أحد أبرز علماء وأدباء الحجاز ومؤلف تاريخ صقر الجزيرة، والشيخ عبدالله العبيد أديب وشاعر ومجغرف المنطقة الشرقية، والروائي والأديب عزيز ضياء، رائد الرواية التاريخية، والأديب المثقف، ورجل الدولة، وعاشق المتنبي، والمحب والمنصف للملك عبدالعزيز مؤسس هذه الدولة العظيمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رحمهم الله جميعاً، وجعلنا الله من الصابرين على فقدهم.
إن فقد عبدالله بن خميس ليس خسارة على أسرته التي أتقدم إليها بأحر التعازي فقط وإنما هو فقد لهذا الوطن الذي قدم له كثيراً وكثيراً في جوانب متعددة من جوانب العطاء. فلقد سخر جل شعره، وهو الشاعر الفحل الذي يعد آخر الشعراء الكبار الذي يذكِّر المستمع إليه شاعراً وملقياً بفحول من قرأنا لهم من شعراء العرب الخالدين سنجد جل شعره لخدمة وطنه، والتغني بأمجاده، وبعظمة تاريخه؛ ثم نجده يكتب أجمل ماكتبه في تاريخ هذا الوطن وجغرافيته ومواقعه؛ يكتب بروح العالم المتمكن، وبلغة قل أن تجد له مثيلاً في توظيفها لما يكتب وبأسلوب علمي ساحر؛ كتب عن الدرعية معشوقته الأولى تاريخاً وشعراً، فجعل من عمله ذلك مصدراً يرجع إليه كل دارس، وكتب كتابه الرائع والذائع الصيت المجاز بين نجد والحجاز، وكتب عن اليمامة تاريخاً وأدباً وجغرافية معجمه معجم اليمامة، حتى أصبح يعد من أهم بل أكثر المصادر التي يعتمد عليها كل باحث وباحثة في تاريخ هذا الجزء الغالي من بلادنا. وأعماله كثيرة لاتحصى، ولا يتسع المجال لذكرها؛ ولعل آخر أعماله الخالدة كتابه الذي صدر في عدد من المجلدات عن جبال الجزيرة العربية، وكان قد جال الجزيرة وهو في أواخر سنوات عمره -أطراف الجزيرة ووسطها - ليقف بنفسه على كل معلم من معالم تلك الجبال.
أما أعماله التنويرية الرائدة فلعل أجلها هو تأسيسه مؤسسة الجزيرة الصحفية التي كان من ثمارها إصدار جريدة الجزيرة التي تعد رائدة التنوير في المنطقة الوسطى من خلال ماكان يكتبه مؤسسها ورئيس تحريرها عبدالله بن خميس من مقالات وأبحاث وطرح رؤى تدعو إلى التنوير، وبعث الحركة الفكرية والأدبية في منطقة لم تكن تعرف الصحافة، واستكتب رواد جيل الشباب من الشعراء والكتاب ليس فقط من المنطقة الوسطى، ولكن من كل أنحاء المملكة ليجعل مسمى جريدة الجزيرة تحمل الاسم معنى وفعلاً.
ولقد عُرف الشيخ عبدالله بن خميس بأنه من رواد التنوير، وبعث الثقافة والفكر، وشحذ الهمم في نفوس الشباب أين ماحل به المقام معلماً ومديراً للكثير من المعاهد. فلقد أسس أثناء وجوده في الأحساء مدرسة شعرية في بيئة هي من أجدر البيئات ملاءمة للشعر والثقافة.
ولقد قدم أمتع وأجمل البرامج الإذاعية فقدم أكثر برامج إذاعتنا خلوداً في الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا، فهو يعد أبرز من منحه الله الموهبة الشعرية وقدرته في حفظ وقول الشعر الشعبي، خاصة شعر الشعراء الكبار منهم مثل الخلاوي وابن لعبون ومحسن الهزاني والعوني وغيرهم.
من اهتمامه -رحمه الله - بنشر العلم والمعرفة تأسيسه واحدة من أكبر دور النشر في المنطقة الوسطى هي دار الفرزدق للنشر التي اضطلعت بنشر كثير من الكتب الرائدة في التاريخ والأدب والشعر، وفيها طبعت ثلاثة من كتبي هي أوائل كتبي، وأعتز بذلك لأنها دار بارزة اكتسبت سمعتها من سمعة مؤسسها.
تعود معرفتي بالشيخ الفقيد عبدالله بن خميس إلى السنوات الأولى من التحاقي طالباً في جامعة الملك سعود في أواخر الستينات الميلادية من القرن الماضي؛ وكان عبدالله ابن خميس مدار نقاشاتنا نحن طلاب كلية الآداب، فكان طلاب اللغة والأدب يثرون نقاشاتنا بآخر عطاءات عبدالله بن خميس الشعرية والأدبية، وكذلك زملائي في قسم الجغرافيا يتحدثون من معجم اليمامة والمجاز بين نجد والحجاز.
أما أنا وزملائي في قسم التاريخ فكنا لانمل الحديث عنما كان يكتبه عن الدرعية واليمامة، ومايقوله شعراً في تاريخ هذه المدن والمواقع، وتاريخ من قام على هذه الأرض من الدول المتعاقبة مثل دولة الأخيضريين وعاصمتهم الخضرمة. أما ماكان يتم نشره من مختلف المواضيع في جريدة الجزيرة فقد كان زادنا اليومي.
في أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي كان لي أول لقاء به حينما زرته في منزله الجديد على طريق الملك خالد، وذلك أثناء إعدادي رسالة الماجستير، وكانت عن المقاومة ضد احتلال محمد علي باشا للجزيرة العربية؛ وعلمت قبل زيارته أنه يجلس في أوقات مابعد المغرب لاستقبال محبيه -وهم كثير -من الأدباء والشعراء والمؤرخين؛ وأنا حينذاك طالب لعلم التاريخ -ومازلت -. كنت محظوظاً، فكنت أول من حل بمجلسه، وأخبرته بما أنوي أن يكون موضوعاً لرسالتي، وقلت له لا أستغني عن نصحك وإرشادي إلى بعض المصادر التي أجهلها، وأخبرته عن رحلاتي إلى الأرشيف العثماني وأن به كنوزاً من المعرفة نجهلها، ورحلتي إلى الأرشيف البريطاني في لندن فاحتفى بي كثيراً، وقال أحمد الله أن أصبح من أبنائنا من نعول عليهم بمعرفة مانجهل من تاريخنا، ويكمل مسيرتنا نحن أبناء الرعيل الأول الذي لم تتح له من الظروف أصبح الآن يسير أمام الجيل الجديد. يقول هذا -رحمه الله - بروح العالم المتواضع، وقال مكتبتي مفتوحة لكل باحث، وظلت كذلك إلى حين إهدائها إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، وظلت صلتي به -رحمه الله - دائمة لم تنقطع، فكنت أرى فيه الأب الحنون، المرشد المحب المقدر؛ ألتقي به في المناسبات، أسعد برؤيته كما كان -رحمه الله - يسعد برؤيتي.
رحم الله الشيخ عبدالله بن خميس رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وسيبقى حياً خالداً في قلوب أبناء وأجيال هذا الوطن بخلود ماقدمه له من عطاء فكري وأشعل في نفوس أبنائه حب العلم والمعرفة والاعتزاز بالوطن.