تطرقت في مقالي السابق لبعض الممارسات التي لا تعتبر فساداً مالياً ضمن تعريف الفساد، ولكنها تقود لتضخم ثروات المسؤول الممارس لها بصورة مريبة تهدد الأمانة في صيانة المال العام، واليوم أتطرق لما لا يمكن تسميته فساداً إدارياً ولكنه أشد ضرراً وأخطر لما يمثله من تهديد لوظيفة الدولة كأداة لإدارة شؤون البلاد و العباد، فتغليب توظيف ذي القربى وذي الصحبة وذي القبيلة وذي الديرة وذي الفزعة على ذوي الكفاءة واستخدام الصلاحيات لتكوين تفضيلية في الخدمات فتصبح نوعية الخدمة معروفاً يسدى للأحباب و الـVIP أو استغلال موارد الجهاز الحكومي وتشغيل المرؤوسين في شؤون خاصة، هي كلها غيض من فيض يمارس كل يوم في العديد من الدوائر الحكومية وعلى كافة المستويات ولا تعتبر فساداً إدارياً.
يجتهد معظم المسؤولين في اختيار مرؤوسيهم، بالتوظيف الجديد أو النقل من قطاعات آخرى، وعندما يفعلون ذلك يستخدمون معيار الولاء أو معيار الكفاءة في تفضيل المرشحين، وربما منهم من يتسخدم المعيارين بتوازٍ ولكن هناك سيادة لأحدهما على الآخر في معظم الأحوال. وحتى أكون منصفاً، هناك من يجتهد ليكون موضوعياً في اختياره، ولكن السائد هو من يجعل الولاء دليله، لذا نجد المسؤول من هؤلا محاطا بالأقرباء و العزوة من أهل الديرة وكأن المؤسسة الحكومية مؤسسة خاصة، والمسؤول من هؤلاء لايهتم بما تنتجه إدارته من خدمات يقدمها للناس بقدر ما يهتم بما يحصل عليه من منافع و نفوذ من تلك الإدارة، وعنما يكون محاطاً بالموالين، يستطيع أن يتجاوز ويخترق ويخالف ماشاء من الأنظمة واللوائح، في حين لا يمكنه ذلك عندما يكون محاطاً بالأكفاء الموضوعيين، وعندما يكون محاطاً بالموالين، سيضمن التمجيد والتطبيل والولائم، حيث هي أدواتهم في التعبير عن الولاء، ولكن الأكفاء لهم أدوات مختلفة في التعبير عن قدراتهم منها مزيد من الإنتاج ومزيد من الفاعلية ومزيد من الضبط وهو ما لا ينسجم وأهداف بعض المسؤولين، لذا ليس من الصعب معرفة مإذا كان المسؤول الأكبر في جهاز حكوي من متتبعي الولاء أم الكفاءة، والمسؤول الذي يتتبع الولاء لدى المرؤوسين حري بأن يستغل ذلك الولاء في أمور آخرى ليست بالضرورة مباحة.
وفي ميدان آخر نجد أن التجاوز في استخدام الأجهزة الحكومية وخدماتها كمصدر للنفوذ والاكتساب الاجتماعي بات يمارس بوضوح، فصار لدى بعض من تلك الأجهزة خدمات VIP وبات المواطنون لديهم فئتان، فئة المواطن المهم والآخر غير المهم، بل إن هناك غير مواطنين باتوا أهم من بعض المواطنين لدى بعض المسؤولين، وهناك من هو فائق الأهمية بحيث تأتي أجهزة الحكومة لتخدمه في بيته، وهنا لا أشير لفئة كبار موظفي الدولة أو من يقتضي الأمر رفع مكانتهم الاجتماعية، ولكن أقصد أناسا اكتسبوا تلك الصفة بالقرابة و المصلحة لدى المسؤول الأكبر، هذا التعامل مع المواطنين وبهذا التفضيل والذي يصل لحد حرمان بعض المواطنين خدمات متاحة لغيرهم قد تعني للبعض الفارق بين الحياة والموت، هذا التفضيل بغير وجه حق يخلق شعوراً مؤلماًِ لكل ذي نفس كريمة.
ومما بات ملاحظا ومعتادا، أن يستغل المسؤول الأكبر في بعض الأجهزة الحكومية موارد إدارته ومقدراتها في شؤون خاصة فالمنزل يعج بموظفي شركات الصيانة رعاية وخدمة و تحسين والمزرعة والاستراحة تنعم بفوائض البنود التي تترجم لخدمات ومشتريات و الأصدقاء والأقارب يتفيئون حسنات المغدق الكريم ففلان لديه سائق والآخر عنده خادمة وكلهم على بند الصيانة والنظافة وأحياناً سيارة برسم الإعارة، ليس ذاك فقط، فقد بلغ التجاوز في هذا الاستغلال أن نرى حتى بعض أساتذة الجامعات، لا تتحرر لديهم ملكة البحث والإنتاج العلمي إلا عندما يصبحون رؤساء أقسام أو عمداء كليات وخصوصاً عندما يكون تحت إمرتهم متعاقدون أجانب، في هذا المضمار سأسكت شهرزاد عن الكلام حتى» لا تجيب العيد «وأكتفي.
غايتي من هذا المقال، هو خطاب عام لكل من يمارس إساءة للصلاحيات والسلطات التي يتمتع بها، مضمونه « لم تكن مخالفاتك في أي يوم خفية عن عيون الناس وأفهامهم، لذا حان وقت الاستقامة الآن، فلم تعد الحال تحتمل غض النظر عن ذلك « وهي رسالة لمعالي الأستاذ محمد الشريف رئيس هيئة مكافحة الفساد مضمونها «لديك فرصة تاريخية لخدمة هذا الوطن، ببذر قيمة الرقابة حتى تثمر نزاهة وفعالية تدفع بحركة التنمية، فلا يهم الناس أن يعلموا من هو الفاسد بقدر اهتمامهم بأن لا يصل الفاسد للتحكم بمصالحهم».
mindsbeat@mail.com