لولا أنني محتار بشأن المستقبل لما طرحت السؤال أعلاه. نحن نعبر على أعلى المستويات وأدناها عن طموحات وآمال كبيرة، لكن الخطوات العملية نحو التحقيق يتحكم فيها الحذر والأخذ بخاطر كل أطياف المجتمع على اختلاف معارفها ومداركها ومصالحها، خشية الإصطدام بمفاهيم تقليدية عرفية أدخلتها المصالح الفئوية المتوجسة إلى عالم الثوابت. السؤال عما نريده بالضبط ليس موجهاً فقط للقيادة السياسية وإنما لعقلاء القوم كلهم من علماء شريعة وقانونيين ومربين وإداريين ورجال أعمال ومستشارين عند الدولة ووزراء وأطباء وصيادلة وعلماء اجتماع.. إلى آخر مكونات الطبقات القيادية في مفاصل الحياة الحديثة.
كتبت قبل شهور في هذه الزاوية تعقيباً من حلقتين على مزاعم شخص ادعى أنه عالج في مستشفى الملك فيصل التخصصي عدة حالات طبية ميؤوس من علاجها بالطب العلمي، وأنه تم شفاؤها بالوسائل العلاجية التقليدية لدرجة أن الأطباء في المستشفى التخصصي اندهشوا من شدة الإعجاب بالنتائج. طالبت ذلك المعالج بتقديم أرقام ملفات المرضى الذين تم شفاؤهم بإذن الله، (دون تقديم الأسماء حفظاً للأسرار)، ومسميات الأمراض التي تم شفاؤها وأسماء الأطباء الذين تنازلوا عن مرضاهم وسلموهم للمعالجة بالطرق التقليدية. طالبت بكل ذلك ليتم التحقق القانوني والعلمي من تلك الإدعاءات ومن ثم تعميم الفائدة في كل أرجاء الوطن إن ثبتت صحتها، أو إيقافها إن ثبتت عبثيتها كادعاء لا غير. لم يحدث شيء من ذلك رغم ضخامة الإدعاء وكبر الإحتمالات السلبية المفتوحة التي قد تترتب على التصديق عند أعداد كبيرة من الناس. أيضاً لم تقم حسب علمي أية جهة مسؤولة في الصحة أو الصيدلة أو القضاء أو حماية المستهلك أو حقوق الإنسان في التحقيق في الموضوع.
هذا الأسبوع الجاري نشرت جريدة الحياة حلقتين عن ممارسات بعض الرقاة والمطببين بالماء والأعشاب والخلطات، ووصفت بعض ما يجري هناك، وكيف يقف أحد المطببين التقليديين على طاولة في الوسط ومن حوله عدة مرضى تكدسوا في غرفة مساحتها 4×4 متر ثم يقرأ وينفث ويرش بالماء على خليط من الممسوسين والمحسودين والمسحورين فيصرخ بعضهم وينصرع آخرون ويهرب البعض من هول الموقف. يجب أن يعرف الناس في هذا البلد وعلى لسان أعلى هيئة شرعية أن العلاج بالقرآن الكريم وبالرقية الشرعية وأن الإستشفاء بالطب النبوي لا يتم ولا يجوز أن يتم بهذه الطريقة، وأن الموضوع هكذا مجرد احتيال وشعوذة ومتاجرة يقوم بها محتالون جهلاء معرفياً وعلمياً على مرضى مساكين أشد منهم جهلاً وأقل معرفة. كيف نطلب من الجاهل أن يحمي نفسه من شبيهه في الجهل، وكيف نترك المجتمع لهذه الأنواع من العبث بالعقول والأموال وصحة المواطنين ؟. الجاهل يحتاج إلى الحماية والتبصير سواءً كان طفلاً أو أمياً أو ساذجاً أو مصاباً بمرض عقلي أو نفسي. واجب الحماية هنا يقع على الدولة ومؤسساتها الشرعية والإجتماعية والتربوية.
نقول ونردد كثيراً أننا نسعى إلى مجتمع يتمتع بمزايا الفضيلة الأخلاقية والتقدم العلمي والإكتفاء الذاتي في كل مجالات الحياة. بالله ابحثوا معي حيال هذه الطموحات الكبيرة عن إجابات لهذه الأسئلة:
1- كيف تتحقق الفضيلة الأخلاقية في وجود عشرة ملايين أجنبي أعزب وعزباء بين ظهرانينا لهم غرائزهم وثقافاتهم وأطماعهم الخاصة بهم ولا يهمهم عندنا أي شيء غير ذلك.
2- كيف يتحقق التقدم العلمي في المجال الطبي بينما عيادات الشعوذة وتفسير الأحلام وتأويل الرؤى ووسائل التداوي بالخلطات الملوثة والسامة تنتشر وتتوسع كل يوم وتكاد تخنق وتحبط مجهودات الطب العلمي المعياري الحديث. كيف يتحقق التقدم الصناعي التنافسي والبلد يستورد كل سنة مئات الألوف من العمالة الأجنبية الجهلة الخام، ويغادرها مثلهم بعد أن تم تدريبهم على كل الحرف والمهن والمهارات في بلادنا على حساب مستقبل شبابنا العاطل.
3- كيف يتحقق التقدم التعليمي والتدريبي لأجيال المستقبل ومستوى التعليم عندنا باعتراف وزير التربية والتعليم نفسه ضعيف إلى درجة مخيفة، بينما التلقين والحشو وإرهاق التلاميذ بالعلوم النظرية لا يترك لهم حصة كافية من الوقت والتركيز والقدرة على الفهم للعلوم التطبيقية.
4- كيف يتحقق السير في اتجاه المستقبل بينما التشكيك والتحريض والتحاسد على أشدها بين من يريدون الثبات في الزمان والمكان توجساً من التغيير ومن يريدون الانطلاق مع القيادة السياسية نحو المستقبل ؟. لماذا لا تتبلور رؤية مشتركة تلتزم بما تحدده القيادة السياسية العليا لمصالح البلاد والعباد ؟. علينا كوطن وكمجتمع أن نحدد بوضوح ماذا نريد بالضبط ونتفق عليه، فإن لم نتفق فللقيادة السياسية وعليها فرض القرار الملزم على الجميع بكل ما يترتب على ذلك من ثواب وعقاب.
حينما نقل بطرس الأكبر روسيا بإرادته الحديدية من عالم الخرافات والإقطاع إلى آفاق العلم الواسعة، وحينما نقل ألميجي بلاد اليابان بنفس الإرادة نحو نفس الآفاق لم يكونا يعطيان كبير اعتبار للمشككين والمتوجسين من المستقبل والمنتفعين من الإنكفاء على القديم. وبعد كل ذلك، لا شك ولا تشكيك في أن لنا في قيادتنا السياسية الحكيمة كامل الثقة في اكتمال رغبتها الصادقة وإرادتها الصارمة لتحقيق المسيرة الصحيحة نحو المستقبل الذي نستحقه بين الأمم.