مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مُهمَلهْ، وعينان نائمتانْ، أعود ثلاثين عاماً
وخمسَ حروب، وأشهد أن الزمانْ، يخبئ لي سنبلهْ، يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء، وكان المساء مساء، وكان المغّني يُغَنّي، ويستجوبونه: لماذا تغّني؟
يردُّ عليهم :لأنُي أُغنّي، وقد فتَّشوا صدرَهُ، فلم يجدوا غير قلبهْ، وقد فتشوا قلبَهُ، فلم يجدوا غير شعبهْ، وقد فتَّشوا صوتَهُ، فلم يجدوا غير حزنهْ، وقد فتَّشوا حزنَهُ، فلم يجدوا غير سجنهْ، وقد فتَّشوا سجنَهْ، فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود...
تلك كانت قصيدة محمود درويش (مجنون التراب) للحرية، وهي لا تقل عن قصيدة الفيتوري في أغانيه لحرية إفريقيا، وقد تذكرتهما وأنا أرى الشاعر اليمني وليد الرميشي مضرجاً بدمائه بعد أن قطع الثوار لسانه بصرف النظر عن اتجاهه وقناعاته سواء أكان مع النظام أم ضد النظام، منظر يكشف الوجه القبيح للإنسانية، ويعرِّي كل الصور المزيفة، ويشعرك بالخطر والخوف صدقا، وقد أفاد مصدر أمني باليمن أن عناصر من أحزاب «اللقاء المشترك» اختطفوا شاعراً، وقاموا بقطع لسانه على يد شيخ قبيلة في اليمن. واتهمت مصادر إعلامية رسمية يمنية عناصر تابعة للقاء المشترك - تحالف معارض في اليمن - بالاعتداء الوحشي على الشاعر وليد محمد أحمد الرميشي، حيث قاموا بضربه وقطع لسانه ثم رموه دون هوادة في شارع تعز بالعاصمة اليمنية، والكارثة أن الشاعر، بحسب بيان اتحاد الكتّاب اليمنيين، عبّر عن رأي حرّ في الأحداث التي تشهدها بلاده، فلم ينحز إلى جهة دون أخرى، بل هجا الإجرام على اختلاف مصادره والمؤلم والموجع أنهم لم يفهموه...
شيخ قبيلة ربما كان متخلفا لا يعرف موازين النقد ومعاني الشعر ومآلات الكلمة، لم يكن يحمل في جلباب الذي ورثه من العظماء نبل فرسان العرب القدماء، ولم يدرك أنه في طريقته الوحشية لن يخرس الهزار ولن تصمت العصافير الأخرى عن التغريد، وربما تعود على قصائد المدح ومطولات تضفي عليه الشرعية وتلبسه منظومات القيم والأخلاق العربية دون اختصار ولكن هذا الجرم الإنساني يثبت من خلال هذه الحادثة أن أعرافها كانت مزيفة ولا تحمل قيمة إسلامية ولاخلقا كريما عربياً... شيخ قبيلة ما فعل فعلته فرعون مع سيدنا موسى على جبروته الذي استخف قومه فأطاعوه وما يريهم إلا مايرى، ولم تسع قريش على طغيانها لقطع لسان ابنها محمد وقد جاء بما يخالفهم تماما، ولم يتجرأ أعتى الاستبداديين على قطع لسان بشر نتيجة موقف ورأي في الحياة مهما كانت وجهته في أقسى جمهوريات الدكتاتورية التي مرت على تاريخنا الإنساني... بئس الثورة وبئس المستقبل إن كان يبنى على قطع الألسنة ومحاسبة وحشية للرأي، وكل مرحلة من مراحل التاريخ لها ظروفها ورجالها ولا يمكن أن تحاسب بمنأى عن رحمها التاريخي الذي كانت فيه، ولو حاسبت لحاسبت شعبا كاملا على ولاءاته وآرائه تحت أي نظام سابق.. ومن قدر الأمة المؤلم أن الشعراء فيها يدفعون أكثر، فكم من شاعر تعرض لمؤامرات القصور، وجلساء الأمير، وكم من أديب قطع رأسه نتيجة نص أدبي، وكم من مفكر قطعت أصابعه وجدع أنفه وهاهي اليوم تقطع ألسنتهم في صورة تشمئز منها مخلوقات السموات والأرض، لأن اللسان أداة التعبير والسؤال والتخاطب والعيش، وهو الأداة التي تشعرك بإنسانيتك داخل مجموعتك البشرية متجاهلين أن الحياة هي من أجبرت هؤلاء على مواقفهم السياسية بحثا عن حليب لأطفالهم وثوب يسترون به عورات أمهاتهم ولقمة عيش يسدون بها رمق جوعهم... والأدهى من قدر الكتاب والشعراء في هذه الأمة أن الكل يفسر نواياهم ويسبر أغوار أهدافهم وربما كان التفسير ممن لا يحسن القراءة ولا يملك أبجديات الكتابة في صورة ما مرت على مجتمع يسعى إلى التمدن والتحضر، بدليل أنه ما من سجن في الأحداث الأخيرة التي عصفت بعالمنا العربي إلا وقد أخرجوا من دهاليزه كتابا وشعراء وأصحاب رأي، في صورة لا تختلف عن فعل الثورات الجديدة حينما ملأت السجون برجال الدولة في الأمس وشعراء النظام السابق، وأدباء مرحلة الرجعية على زعمهم بعضهم اعتقلوه في عودته لأرض الوطن بعد أن شارك في مؤتمر وبعضهم نفه إلى سجن أرحب بحجم الكرة الأرضية كمظفر والجواهري، وكل ذلك يختزله موت السياب في الكويت حينما لم يجد من يدفنه إلا بعض عمال النظافة في المستشفى الأميري ثم يضعون له تمثالا على باب مدينته البصرة يشتمهم صباح مساء في جدلية تبدأ من السجن وتنتهي بقطع اللسان، وتمر في رحلتها تلك بتجهم وجه السجان عدو الحضارة وتصرف غير نبيل لشيخ القبيلة اليمنية ذاك، الذي لم يدرك بتهوره أنه ضحية تربية فاشلة وثقافة استبداد تعيد التعصب والهمجية والتخلف وتكميم الأفواه وقطع الألسنة وسيختطف الثورة وينحو بها إلى منحى وحشي ثم يبكي الشعب على النظام السابق، لأنه أرحم من جحيم الواقع، يغير وجهتها من الرأي والرأي الآخر إلى جهة غير معلومة والمجنون من يركب في تلك السفينة بينما كل منظومات القيم وتعاليم الإسلام تؤكد على مبدأ العفو والتسامح لأن المحاسبة على ما مضى ستحول المستقبل من جديد إلى فريقين متصارعين، كل منهما يقتنص الفرصة للثورة على الآخر وتجريم الشعب الذي كان معه مما يعطل التنمية وبناء الإنسان الموعود بقطع اللسان..
شيخ القبيلة الذي قطع لسان شاعر يغني لوطنه لم يقرأ بكل تأكيد قول قتيلة بنت الحارث لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
أَمُحَمَّدٌ وَلأَنْتَ نَسْلُ نَجِيبَةٍ
فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرَقُ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ
رُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهْوَ الْمُغِيظُ الْمُحْنَقُ
فقَالَ النبي: «لَوْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا قَتَلْتُهُ»، فَيُقَالُ: إِنَّ شِعْرَهَا أَكْرَمُ شِعْرِ مَوْتُورَةٍ، وَأَعَفَّهُ، وَأَكَفَّهُ، وَأَحْلَمَهُ.
وقطعاً لم يكن يعرف أن قطع لسان شاعر في القرن الحادي والعشرين تتضاءل أمامها ذنوب الأرض ولم يسمع بكتاب الكامل للمبرد والأمالي للقالي وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي وكلهم ذكروا أن العرب الحقيقيين كانت قبائلهم ترسل وفودها إلى أي قبيلة أخرى ينبغ بها شاعر في عصورهم الجاهلية تقديراً منهم للكلمة، ولم يكونوا قد سمعوا بجمهورية أفلاطون التي قدرت الشعراء كمفكرين وأصحاب رأي فجعلتهم منزلة من منازل النبلاء..
قطعاً لم يسمع أبا الطيب المتنبي وهو المقتول غدراً لأنه شاعر أثار حبه لسيف الدولة كل من في بلاط المؤامرات فقال:
وما الدهر إلّا من رواة قلائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمّرا
وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنّما
بشعري أتاك المادحون مردّدا
ودع كلّ صوت غير صوتي فإنّني
أنا الصائح المحكيّ والآخر الصدى
تركت السرى خلفي لمن قلّ ماله
وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيّدت نفسي في ذراك محبّة
ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
إذا سأل الإنسان أيّامه الغنى
وكنت على بعد جعلنك موعدا
نعم أبو الطيب لا يستحق تلك المؤامرات التي عصفت باستقراره فجعلته يذرع الأرض بحثاً عن مكان آمن، ولم تسعفه ركائبه بالهروب من مجتمعه إذ أدركته قبيلة عربية (بنو أسد) فقتلته ولم تترفق به، وهو القائل لسيف الدولة حينما أراد أن يبطش ببني كلاب (القبيلة العربية الأخرى) ليعطي صورة إنسانية للمثقف غير الدموي في قوله:
وكيف يتم بأسك في أناس
تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترَفَّقَ أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
وكلما شرد ذهني في استحضار حالات الإقصاء وقطع الألسنة صفعتني قصيدة إيلوار التي ألقتها الطائرات الفرنسية على باريس بعد تحريرها، وربما وقعت تلك القصيدة على رأس عميل كان في حكومة فيشي النازية السابقة ليعيد الوهج لإنسانية الثورة الفرنسية التي تفتخر بهدم سجن الباستيل ولم يكن فيها سجين سياسي في صورة مقابلة لافتخار الثورة اليمنية بوحشية الإنسانية في قطع لسان شاعر يهجو الإجرام وتعطيل المؤسسات ومظاهر الحياة وكل سبل التخريب الذي حل بوطنه على يد شيخ قبيلة متخلف حسبما أفاد النقاد الذين سمعوا قصيدته وربما كان ذلك الشيخ ممن لعق شسع نعل قائد الثورة السابق ذاته... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com