بعض البلاد العربية صارت مثل خرائب مسكونة بالظلام وبالرماد، أو مثل طائر بجناحين متعبين، أو مثل عود قصب رقيق، أو مثل ناي حزين، لا هي حالمة بنجمة تضيء، وليس لها نشيد للمطر، لا خيولها مسرجة بالركض وبالصهيل، ولا ريحها قادمة بالفرح الأبيض أو الضياء المنير، هي نائمة وليس بها صحو، ولا تعرف اختلاط الكلام الأنيق، لا حجارتها هي الحجارة، ولا شجرها هو الشجر، ولا غيومها ضاقت بها الأرض، دم في دم، ونياح في نياح، هرج ومرج، امتطاء الفاجعة عنوانها، البلاد العربية تناهشها القرامطة والبويهيون والبرامكة والتتار الجدد والمغول المغول، وتشعلها نار المجوس، وحقد المجوس الدفين، البلاد العربية أصبحت لا تعرف تهجئة الحروف، ولا قياس السطور، ولا شكل الكلمات، ولا البلورة البلورة ولا المرآة، ولا الفرق بين القصيدة والنثر، أو الرمل والطين والتراب الخفيف، هي في مخاض الولادة ولا ولادة، لأن حبلها السري معقود، صخرها ينهش، وأرضها تدك، وعظامها تهلك، وظلمتها المطبقة تزداد، لا سماؤها سماء، ولا شمسها شمس، ولا غيمها هو الغيم، ولا أسماؤها الخاصة هي الأسماء، ولا ألقابها هي الألقاب، ولا قيتارة وجدها هي القيتارة، رقصات الألم تنسج من أوراق صبرها قميص يعقوب، لا هي قادرة على الارتقاء برؤيتها عن الحياة والكون والخروج من العتمات، ولا تعرف نور اليقين، هي ترحل إلى فضاء الخواء وضجيج الضجيج ودروب العدم، لا شرفات الحلم تغازل صباحاتها المشرقة، ولا فرشاة اللون ترسم لوحة طبيعتها بألوان فاتحة، رغم كدرة الجو المحيط وصفرة الريح ودبق الهواء الرطب، ازدحام أشياؤها في دهاليز العتمة أثقلها بالهشاشة وطوقها بضبابية مبهمة ولفها بالقلق، هي أمام صعوبة الاختيار، ومقام الحال، والصهيل الممزوج بالبحة، صخبها جنون يسكن وجدانها، ويبحث بين سطور قدرها معنى ذاتها، هي في غيبوبة التجلي للتخلص من ربقة الجسد وقيود المادة، حتى المقاهي العربية لم تعد هي المقاهي، ولا الشوارع هي الشوارع، ولا الممرات هي ممرات، وحتى الوجوه الجميلة النافرة بالجمال لم تعد جميلة، ولم يعد الناس يحتسون الشاي في أماكنهم المحببة ويحدقون بالمارة حيث العشب والنهر وخرير الماء والوردة الحمراء والشجرة الخضراء الكبيرة، ما عادت هذا المشاهد تصير، لقد ابتلعها الحزن والأسى حد الهوس، صارت مثل الأمنيات الرمادية، بقايا جمر حين يخبو وهج الجمر، هي الحسرات الحارة على الأمكنة التي كانت رائعة، والعلاات الإنسانية التي تشوهت، وألم الجفاف، والريح العتية، البلاد العربية، صارت بردا ونارا وزلازل ومحنا وثلجا ولهبا، وشهقات وأصوات ذبيحة، ودم وأرض مالحة، لم يعد وجهها مترفا، أحلامها أضغاث، ووسائدها حرمان، ولذتها سقطت تحت حدود الزمان الصعب، كالضحية انسلخ جلدها وانتزع من جسدها بعض لحم طري، مثل لعبة تكسرت، ومثل نضوب الماء، جدب الأرض صارت، ورمل تيه ، وهشاشة عظم رقيق، نضب شوقها، واستيقظ بركان الضجيج الكبير، لقد كف السلام عنها، فالشمس الكبيرة التي أشرقت عليها ذات يوم، لم تمنح العظام العربية الدفء بعد.
ramadanalanezi@hotmail.com