«على قدر أهل العزم تأتي العزائم»
والعزيمة تنبت في الذات المتحركة، الحية، النابضة
إذ لم يشهد للحجر على مر الدهور أن كانت له عزيمة.. ولا الجماد..
غير أن الحجر الذي يُنحت، والجماد الذي يتشكل إنما هما صنيع عزائم البشر..
حتى عزيمة المضخات، والمكنات، ودواليب العربات إنما تشحذها عزائم البشر.. عقولاً وسواعد..
والعزائم ذوات بصمات..
فمنهم من تنتج عزيمته عملاً حركياً.. بالسواعد والأقدام، أو بالكلام.. فما تلبث شمس النهار في غروبها أن تطفئ فيه وهجه حين يعود لبيته، وقد أنَّ كل عِرْق فيه على صعيد ركض.. فتنهال عليه مثبطات الراحة.. والناس الذين تركهم موشومين بجهد عزيمته قد أخذوا منه ولم يعطوه.. فالليل يطوي فيه كل أثر له..
ومنهم مَنْ يتعامل مع عزيمته بفكر يقظ؛ فلا يدع لنباتها سبيلاً للضياع فيوثقها بالحفظ صوتاً، أو تدويناً، وليس ثمة مَنْ ينزع نواياه فيما تقتضيه عزيمة التوثيق لثبوتية منتجه..
غير أن ليس كل عزائم المتحرك النابض على الأرض منتجة ما ينفع.. ولا كلها خالية مما يفيد، ولا جميعها آيلاً منتجها للزوال، أو متاحاً للبقاء..
فعزائم الشعراء حين كان الشعر ديوان البشرية، بمختلف أغراضهم وموضوعاتهم، الذاتي والإنساني، والحماسي، والتصويري - على وجه التشبيه - في العصور البالية، قد طمست ريح الزمن على الشفاهي من مطلقاتها.. وبقي في أضابير الرواة والمدونين ما بقى منها، ولم تعد صالحة لهذا الزمان، ولا مرادة من أهله.. وحفظ منها في متاحف التراث جُلّ ما دُوّن منها، تنطوي بنية ذويها، حين نشطت عزائمهم عند انبعاثها، وحرضت أغراضها عليها، وغدت من ثمَّ هدف ذوي العزائم من مريدي البحث، والربط، والتقليب، والمقارنات، والخلوص بمفارقات معطيات الإنسان وفق ما كانت عليه أشكال عزائمه..
والقياس على هذا في شؤون العزائم المنتجة متاح..
وفي هذا الوقت القائم فصلٌ من الزمن، الذي سيمر، والذي هو حقبة الراهن من حياة المتحرك النابض على الأرض، الفاعلة عزائمه في العطاء, بما هو عليه شكل حياته، من التجديد والإضافة، والتغير والتنوُّع، فإنه تبقى له طبيعته البشرية ليصنع ما ينوب عن عزيمته في شكل من أشكال منتجها..
وتتلون معطيات العزائم؛ إذ جُلّها قد تيسرت لها فيه سبل الظهور, والنشور, والحضور, والتوثيق.. بفعل منتَج عزائم أخرى...
غير أن هناك مع كل ذلك مثبطات لعزائم الإنسان المتحرك بعزيمته..
وهو إن كان في مدار يضيق في زمن مضى لأن يمد عصاه في طريق الآخرين ليعثِّرهم..
إلا أنه قد منح في الراهن مدارات واسعة، باتساع المساحات التي يتحرك فيها، وبكثرة الآخرين الذين يتنافسون معه الماء والهواء والمقدرات الكثيرة..
فعسى أن تقف العزائم عند منطلقات الخير، وتحجم عن ولوج مدارات الشر..
ليكون منتج الإنسان للإنسان ما يثبت حقه في الحياة الجميلة، والهانئة؛ إذ مضاميرها تنوعت، والمقدرات لشحذها قد تلونت وكثرت.. وازدهت الأرض بخيراتها، فلمَ لا تزدهي النفوس بأطايبها، فتكون منبتاً للعزائم المنتجة للزيادة، لا للنقلة، وللإضافة, لا للإنقاص، وللذات والآخر, لا للواحدة، في ظل تمكين الإنسان من الحفاظ على انتمائية منتج عزيمته..
فالحياة لم تعد الصحراء والخيمة والكوخ وطرف الشاطئ وقطيع الخراف وسرب الطيور وبئر الماء وكلاب الحراسة ومد الرعي.. بل هي هذا الكون المتضخم المتشابك الذي كثرت فيه السبل لمسارات واضحة وخضراء للعزائم متى ما صلحت دوافع نشاطها وحيويتها، وحسنت نوايا محركيها.
