نستطيع تطبيق هذا المثل على جوانب عديدة من حياتنا اليومية، ومنها إشكالية يقع فيها العديد من ممارسي الفنون البصرية لدينا، فمن سمع عن شي لا يمكن أن تقارن خبراته ومعلوماته بمن شاهد، ناهيك عن من تذوق أو عايش أو استخدم كل حواسه لتلقي معلومة أو مفهوم، مقارنة بمن وصلته المعلومة عبر وسيط.
وإذ كررت الحديث حول هذه الإشكالية في العديد من مقالاتي السابقة بل في أكثر من موقع بسبب انتشار النقل من فكر الآخر لدى عدد من ممارسي الفنون البصرية لدينا، بحيث يتبنون بعض المواضيع أو الأساليب أو المفاهيم في أعمالهم من باب (سمع فقط) لذا لا تحمل أعمالهم مضامين فكرية عميقة، ولا تعكس إحساس من يحمل صورا وخبرات متنوعة لأعمال (أكثر صدقاً) إن صح لي التعبير.
تذكرت هذا وأنا استمتع أخيرا بفصل الربيع بعد شتاء قاسٍ في مدينة بوسطن الأمريكية، وخلال حوالي 9 أشهر قضيتها هنا حتى الآن منذ وصولي نهاية فصل الصيف، تكونت خلالها في رؤيتي صور عدة ومتنوعة للمكان الواحد، ربما أكثرها تكرارا وتنوعا في الوقت ذاته، ذلك الطريق الذي أسلكه يومياً، فكان الخريف مميزاً بتغير ألوان أوراق الشجر يوماَ بعد يوم، ثم تساقطها على الأرض لتشكل بساطاً نستمتع أنا وأطفالي بتحريك الأوراق أثناء مشينا عليها، وبعد خلو الأشجار والأرض معا من الورق، بدأ الثلج، فكان لون البياض الذي غمر المكان وقت نزول الثلج لأول مرة مبهجاً، ولكن يوماَ بعد يوم وعاصفة ثلجية تلو الأخرى أصبح هذا البياض أمرا مزعجاً بسبب إعاقته للحركة، والآن والشجر عاد ليكسوه الورق الأخضر والزهور الملونة تملأ المكان، بدأت الحياة تدب من جديد، وإحساسي بالإيقاع والألوان والحركة المستمرة في مكان واحد جعلني أتذكر ندائي السابق حول الفنون والفارق بين من ينقل ومن يتعايش!.
خطرت لي كل هذا صباح اليوم وأنا أمشي تحت ظل الشجر في يوم ربيعي مزهر ومشمس جميل، تذكرت حصص التربية الفنية في مدرستي في مدينة الرياض قديما حين كانت المعلمة تطلب منا رسم منظر الربيع؟ أي ربيع هذا؟ ونحن لا ننعم سوى بشهرين من الشتاء و10 أشهر من الصيف الذي يصل مرحلة الغليان في أغسطس، ولكن ربما لو طلبت المعلمة اليوم من التلميذات رسم عاصفة رملية ستكون الأعمال أقوى تعبيراً وأكثر عمقأً وصدقا، حتى وإن لم تكن جميلة شكلياَ بجمال منظر من فصل الربيع، لكن جمالها سينعكس من خلال تفردها وصدقها، وستكون ربما بداية لجيل قادم من الفنانين والفنانات تتوقف لديهم تلك الازدواجية والنسخ واللصق من ثقافة الآخر، ليكون تعبيرهم نابعاً من الذات، حتى وإن لم تعجبنا تلك الذات شكلياً فما يهمنا هو صدق المضمون!.