الجنادرية محفل تاريخي اجتماعي سياحي أثبت وجوده من خلال التطور من سنة إلى أخرى، فالجنادرية في واقعها اليوم معرض لعاداتنا وتقاليدنا وحرفنا ومهننا، فالموروث الشعبي بأنماطه المختلفة حاضرٌ فيها، حيث يقف الزائر على وسائل الزراعة والحدادة والنجارة والألعاب الشعبية
ووسائل التسلية والفن من ربابة وألحان شعبية ورقصات، ويُشاهد بيت الشعَر للبادية، ونمط بناء البيوت للحاضرة، ويقف على الدكاكين ليتعرف على التجارة وسوقها، وهناك مدرسة تعليم الأطفال والصبيان والأدوات المستخدمة في الكتابة والقراءة، ثم إن الجنادرية تعرض تاريخ بلادنا السياسي والاجتماعي، فهي مدرسة تُعلم الصغار وتُذكر الكبار، وتجلب المتعة للصغير والكبير، لأن الوسائل متعددة، فالأسرة تجد فيها ما يلبي رغبة المرأة والرجل والطفل، وهناك جانب آخر للجنادرية وهو التعريف بأدبنا وفكرنا ونهضتنا، ففي كل عام يُدعى للجنادرية أدباء ومفكرون، فتُعقد الندوات، ويحصل التلاقح الفكري، فيتصل الفكر في هذه البلاد بفكر إخواننا العرب، وقد تجاوزت الجنادرية الأفق العربي إلى الأفق العالمي، حيث دعيت اليابان للمشاركة في جنادرية هذا العام، فاطلع زوار الجنادرية على معارف اليابانيين وثقافتهم.
إن الفضل في وجود هذا المحفل لصاحب اليد الطولى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي أسس هذا الصرح الشامخ، والمنتدى المتنوع المعارف، حيث اجتذب السائح السعودي والعربي والأجنبي، فهِمم الرجال تبني الثقافة وتنير العقول. ومن مزايا الجنادرية أنها تجمع أقطار المملكة في مكان واحد، فهذا بناء القصيم، وهذا بناء الأحساء، وهذا بناء عسير، والباحة، ونجران، وجيزان، وتبوك، فتستطيع أن تطلع على المملكة في مكان واحد، ثم إن الجنادرية تجمع سكان المملكة في مكان واحد، فالعسيري يرغب في الاطلاع على أُنموذج بلده، وكذلك الأحسائي والقصيمي، وغيرهم، إن الامتزاج في هذا المكان عنوان الألفة والمحبة والترابط والأخوة، فقد جمعت الجنادرية جميع سكان المملكة في مكان واحد يتآلفون ويتآخون ويطلع بعضهم على ما عند الآخر، إنها أرض الجنادرية المملكة العربية السعودية المصغرة، يحضر فيها ملك البلاد ليبارك هذا المنتدى ويدعمه بكلامه وبفعله، فهو المتابع له منذ تأسيسه إلى يومنا هذا، بارك الله في الجنادرية ومنطلقاتها وأهدافها السامية فهي وسيلة من وسائل محبة هذا الوطن، والتفاني في تطويره، وبعث تراثه وتاريخه، لقد أحيت ما اندثر، وبعثت ما تهالك، وربطت الحاضر بالماضي، وشجعت على جمع التراث، فانبرى رجال يجمعون تراث مناطقهم، حتى أنشأوا المتاحف، وجمعوا ما كان مُعرَّضاً للتلف، فأُقيمت تلك المتاحف في كثير من البلدان، تعرض الملابس القديمة للرجال والنساء، وأدوات الطبخ، والقهوة، والزراعة والصناعة، وغيرها فحافظوا على تراث كان مُعرَّضاً للضياع والتلف، كل ذلك بفضل الله ثم بفضل الجنادرية التي نبهتهم إلى قيمة الأشياء القديمة وارتباطها بتاريخ البلد، والجنادرية اليوم بالإضافة إلى أنها مقصد سعودي، فهي مقصد خليجي، ومقصد سياحي للأجانب، وقد أغرت الفضائيات بمرئياتها النادرة فنقلتها إلى العالم، فتطلع العالم إلى رؤية الجنادرية. إن المملكة العربية السعودية تحتفظ بتراث العرب، فهي تشغل جل مساحة شبه الجزيرة العربية، ففيها تاريخ العرب، وإرثهم الاجتماعي بأنماطه المختلفة، ففي كل يوم يُعثر على آثار جديدة وكتابات قديمة في أرجاء مختلفة من المملكة العربية السعودية.
إن هذا المحفل النادر بحاجة إلى اختيار الأيام المناسبة لافتتاحه، فقد افتتح في هذا العام في 13 أبريل، وفي يوم الافتتاح هبت عاصفة محملة بالغبار، وذلك غير مستغرب فشهر أبريل هو شهر العواصف المعروفة عند أهل نجد بروائح الصيف، وروائح جمع رائحة والرائحة السحابة أو القطعة من الغبار التي تسوقها الريح بشدة، وسُميت رائحة من الرواح وهو آخر النهار، فالرائحة ضد الغداة التي تكون في الصباح، فهذه الروائح رياح شديدة يكون فيها أمطار أو غبار، وتتسم باقتلاع الأشجار، وتكسير النخيل، وإسقاط اللوحات، وتكسير الحواجز، فالخطر وارد، وإن كانت تحمل الأمطار التي يُنتفع بها، يقول الحطيئة:
سَقِيَّةُ بَيْنَ أنْهارٍ وَزَرْعِ
سَقَاهَا بَرْدُ رَائِحةِ العَشِيِّ
والصيف في نجد يأتي بعد الشتاء، وهذا ما أشار إليه ابن قتيبة في قوله: «ومن ذلك الربيع، يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه الورد والنَّور، ولا يعرفون الربيع غيره، والعرب تختلف في ذلك: فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تُدْرِك فيه الثمار - وهو الخريف - وفصل الشتاء بعده، ثم فصل الصيف بعد الشتاء - وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع - ثم فصل القيظ بعده، وهو الوقت الذي تدعوه العامة الصيف، ومن العرب من يُسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار - وهو الخريف - الربيع الأول، ويُسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنَّوْر الربيع الثاني، وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع».
أقول إذا كانت روائح الصيف التي تحمل الغبار والريح الشديدة تبدأ في منتصف «مارس» وتنتهي في منتصف «مايو» فإنني أرى تقديم افتتاح الجنادرية بحيث يكون في أول «مارس» فأول مارس في منتصف العقارب، فالبرد الشديد قد زال وقته المربعانية والشبط ولم يبق إلا برد العقارب الخفيف.
وما دمنا بصدد الحديث عن روائح الصيف التي تنشأ في المساء، وهي في الغالب بنسبة (95 %) ما بين الساعة الرابعة إلى الساعة الثامنة مساء، فأرى برمجة إقلاع الطائرات وهبوطها في مطار الرياض لا يكون في هذا الوقت في الشهرين من منتصف مارس إلى منتصف مايو، بل يكون في الليل وفي الصباح، دفعاً للإحراج وإبعاداً لضجر الركاب من تأخر الرحلات، فالراكب يريد إقلاع رحلته والمسؤول يريد سلامته ورائحة العشي تمنع إقلاع الطائرات في كثير من مساءات الشهرين اللذين أشرت إليهما، وإذا كنت قد جمعت بين الجنادرية وإقلاع الطائرات وهبوطها فإن الجامع بينهما البحث عن السلامة، فلم نَنْسَ بعد تشرد الأسر في الجنادرية منذ عشر سنوات بسبب عاصفة هوجاء هبّت في مغرب يوم من أيام الجنادرية، وقد أخذت سيارات الحرس وسيارات الأمن تجمع الأسر التي شردتها العاصفة، فالهدف السلامة والأمان لرواد الجنادرية.