لا شك أن إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، سيكون له أثر عظيم في تمكين الحماية للمال العام وتحسين المردود النفعي للمشاريع والبرامج التي تقوم بها الدولة، ومن القراءة الأولية لتنظيم الهيئة وخصوصاً ما يشير لاختصاصاتها يستشف القارئ أن تعريف الفساد لدى المشرع قد اقتصر على ما أشير له بالتنظيم بـ»الفساد المالي والإداري»، فالفساد المالي كما هو معرف في أدبيات الحقوقيين، يشمل الاختلاس والرشوة واقتطاع الإتاوة والتبذير والاستئثار في المال العام، أما الفساد الإداري فيتمثل في الإخلال بالإجراءات النظامية والتزوير وتجاوز الصلاحيات بوعي وإدراك لتمكين الانتفاع الشخصي وتعريض مصالح الوطن والمواطنين للخطر، هذا التعريف الضيق للفساد يخرج كثيراً من التصرفات التي تقود للاكتساب غير المشروع والانتفاع الجائر، فلا يحتاج المراقب أن يكون عالماً بالرياضيات حتى يلاحظ أن بعض من موظفي الدولة باتوا من ذوي الثروات والأطيان دون أن يكون لهم نشاط كسبي يتناسب مع تضخم ثرواتهم وليس هناك ما يدل على ممارستهم لفساد واضح. وذلك الملاحظ أيضا لا يحتاج كثير جهد عندما يطوف بأحد المصالح الحكومية أن يخمن قبيلة أو منطقة المسؤول الأكبر فيها وما في ذلك من مضنة التعاضد على نفع مشترك. فهناك فساد ضمني في بعض ما يمارس من نشاطات في أجهزة الدولة وفي هذا المقال سأتناول الاكتساب غير الشرعي مما لا يشمله تعريف الفساد المالي وفي مقال لاحق سأتناول الإخلال الإداري الذي لا يسمى فساداً ولكنه لا يقل ضرراً.
حكم الضائعة من بهيمة الأنعام كما ورد في حديث شريف «لك أو لأخيك أو للذئب» وهذا هو منطق بعض الناس فيما يخص المال العام، هذا التفكير الموتور هو الدافع لكثير من المخالفات المالية التي يقترفها ضعاف النفوس، وهؤلاء يقترفون مخالفتهم بصورة واضحة جلية كأن يختلس الواحد منهم أو يرتشي، بل إنه يحتاط بحذر ويخط لنفسه طريقة ملتوية متعددة المراحل من خلالها يقايض صلاحيته وسلطاته بمكتسبات مالية، فهو في المعتاد يشتد ويعترض ويبدو صارماً في حماية مصلحة الدولة ويناسب ذلك فيما ينشد من مصلحة، وبعد أن تترتب الأمور بالصورة التي خطط لها، يعاد الأمر للدراسة وتطرح رؤى جديدة تغير الموقف السابق، هذه الطريقة يشار لها بـ»التزييت» إشارة لاستخدام زيت الفرامل في فك البراغي الصدئة، أما الوسيلة الأخرى والتي يشار لها بـ»الصرام» كناية عن صرام النخل، فميدانها هو موجودات وممتلكات الجهاز الحكومي، حيث يصاغ حال بها تستغني الدائرة الحكومية عن مرفق أو أرض في مكان مناسب، ثم يصاغ حال أخرى لاستصدار أمر لمستحق يتملك تلك الأرض أو المرفق وهذا لا غبار عليه من حيث الإجراء ولكن الترتيب مريب، ومن الوسائل الاحتيالية للإثراء على حساب المال العام ما يمكن أن يسمى «شدّ لي وأقطع لك» وفي هذه الحال يتم تبادل المنافع، حيث يتفق مسؤولون في مكانين مختلفين بأن يتيح كل منهما لذوي الآخر أو مشاركين له أن يتقدموا للمناقصات بأسعار منخفضة وعند التعميد يضاف لهم بنود لم تكن موجودة أو يخفض عنهم بعض الأعباء أو يتم التغاضي عن بعض الملاحظات، وكل ذلك من أجل حفنة من الريالات، هذه الترتيبات تتسم بالانضباط الإجرائي ومن الصعب كشف مكون الفساد فيها، وحديثاً تفتق ذهن المنتفعين عن حيلة جديدة، حيث يقوم المسؤول بشراء أسهم أو الإيعاز لمن يشتري أسهماً لمصلحته في شركات لديه صلاحية في نفعها أو ضرها، أو أن يشترك مع مساهمين في عقار أو مرفق بغرض شرائه لدائرته أو استئجاره وفي معظم الأحيان تكون تلك المشاركات مجاناً وباسم شخص آخر. هذه نماذج من الكثير من الحيل والأساليب التي ينتهجها المعتدون على المال العام بصلاحياتهم وسلطاتهم دون أن يقترفوا مظهراً من المظاهر المعرفة بالفساد المالي.
نحن ندرك أن فعالية هيئة مكافحة الفساد في حماية المال العام أن تكون وسيلة ردع أكثر منها وسيلة عقاب، فالمكافحة هي استباق لوقوع المخالفة وحماية للنزاهة ومساهمة في كبح جماح الطمع، أما العقاب فهو انتقام للنظام من المفسد، ولكن بعد أن يكون قد خرب روما كما يقال، لذا يجدر بالهيئة أن تهتم بدورها كرادع عن الفساد وهي بذلك لابد أن تفترض أن الصلاحية دون رقابة تعين على المخالفة، لذا وبما أن خادم الحرمين الشريفين هو قائد المطالبين بالشفافية في العمل والنزاهة في القصد، فليس هناك وسيلة أبلغ من الإفصاح لقمع الفساد المالي، ويكون ذلك بأن يقوم كل مسؤول بالدولة ممن يتمتع بصلاحية مالية أو إدارية تتصرف بموارد وموجودات للدولة بالإفصاح عن ثروته الشخصية بالتفصيل للهيئة وعند ترك وظيفته لأي سبب يجوز للهيئة أن تستقصي عنه خلال عشر سنوات من ترك الوظيفة ومساءلته عن أي تغير غير عادي في تنامي ثروته، هذا الأسلوب معمول به في كثير من الدول. هذا الأسلوب عندما يضاف لنشاط الهيئة في تتبع المخالفات المالية سيكون فاعلاً في تحقيق أهداف الهيئة.
mindsbeat@mail.com