إن هذا الإنسان الذي أوجده الله على ظهر هذه البسيطة جعله الله خليفة في الأرض، فأحياناً يرتفع بذاته وأحياناً أخرى يهبط بها إلى مكان سحيق، فعند النصر يرفع أرنبة أنفه عالياً وعند الخذلان يماس سطح الأرض انكساراً وذلة، وكلا المسلكين هما طرفا نقيض. إن الذي تسعفه أدواته ووسائله أحياناً ويحقق شيئاً يسجل في أسفار المجد فإنه حينها ينسى ذلك الخالق الذي أوجده وسخر له هذه الأسباب الظاهرة والباطنة، إن هذه المقدمة المتواضعة التي أدليت بها لتكون فاتحة لمقالي هذا والذي يتمحور موضوعه حول (الزلزال الذي ضرب اليابان) الذي خلّف وراءه آثاراً مدمرة مادية ومعنوية، وصدق الله العظيم في وحيه الطاهر حينما قال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يونس24.

نعم إن اليابان أخذت بمجامع التقنية من قرنيها حتى أذهل تقدمها العالم بأسره، وأصبحت دولة اليابان يشار إليها بالبنان فأصبحت شامة في جسم هذا النسق الدولي الرحيب، إن اليابان إبان الحرب العالمية الثانية هزمت شر هزيمة حتى أن دستورها كتبه لها أعداؤها وهذه هي عادة المنتصر، فالتاريخ يُكتب ويدون بقلم المنتصر، ولكن اليابان لم تستسلم لهذه الهزيمة، فشمرت عن ساعديها عبر كواهل شعبها، فنسيت الأمس ونبذته وراء ظهرها، فاستشرفت لغد واعد مشرق وفعلاً كان لها ما أرادت فحققت تقدماً اقتصادياً وصناعياً جعلها تقع في أعلى درجات السلم الحضاري العالمي، ولكن اليابان ربما أعجبت بنفسها فمجدت ذاتها ونسيت أن ما بين يديها هو من الله، ولكن اليابان ربما قالت فيما بين يديها من أمجاد حضارية قولة قارون حيث قال الله تعالى عنه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} القصص78.

إذا من اعتقد أنه يمسك بأطناب الحضارة وأنها بيده فإنه في يوم ما سوف يفقدها، إن اليابان على إثر هذه الكارثة أُسقط في يدها فوقفت مذهولة من شدة هول ما وقع فيها حتى قال أحدهم إني أضغط على شحمة أذني وأقول لنفسي هل ما وقع فينا حقيقة أم حلماً - إني أقول له: على رسلك، إن ما أصبحتم عليه حقيقة وهو سوط الله في أرضه لكل إنسان يدب على ظهر هذه البسيطة حينما يتنكب عن الصراط المستقيم، فمن ظن أنه قوي فالله أقوى منه، قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ }غافر21.

إن هناك حضارات كانت أقدم من حضارة اليابان ومع ذلك كله توارت عن الأنظار، فالله يملك زمام الأمور كلها، من لم يأته يوماً طائعاً آتاه يوماً كارهاً، ولو أن الخليقة والحضارات أتت إلى الله طائعة لم يصبها الدمار والهلاك، علماً أن بعض الناس يعتقد أن الحضارات والتقدم هي دائماً تسير باطراد وهذا ليس صحيحاً، فالحضارات أحياناً تتقدم وأحياناً تتأخر، ففي غابر الزمان شهد العالم طفرات للحضارة ثم اندثرت، إذا فإن الحضارات ليست دائماً باطراد وتقدم مستمر، فعلى سبيل المثال لا الحصر.. كانت هناك حضارة متقدمة أشار إليها القرآن الكريم بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ{6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ{7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ{8} الفجر.

إن حضارة قوم عاد التي أشار القرآن إليها لا نرى لها أثرا، فهي اليوم أثراً بعد عين. إذاً إني لم أعلم أن اليابان جرت أذيالها على الشعوب تظلم هذا وتقتل ذاك، ولكنها ربما أنها أعجبت بأمجادها وانبهار العالم بها إلى ذاتها الصرفة. إذاً فكل حضارة أو إنسان عزا ما بين أيديه من المجد إلى نفسه فمصيره إلى زوال.. وإني لا أعرف كما لا تعرف البشرية جمعاء أن هناك شخصا أو حضارة تلامس قبة السماء.