علم الفيروسات لا يعرف أسراره حتى النطاسيون من الأطباء، فما بالك بالفيروس الاجتماعي السياسي الذي ينتشر في الوطن العربي مطيحاً بأكثر الحكومات استقراراً وأشرسها في التعامل مع شعوبها.
تشكَّل هذا الفيروس بسبب صفعة وجهتها شرطية لمواطن تونسي في أحد المدن التونسية البعيدة عن العاصمة بعد أن احتج على مصادرتها لعربة كان يبيع عليها الخضار ليجني قوت يومه، مما أدَّى به إلى إحراق نفسه حتى الموت قهراً وانتقاماً من نفسه لنفسه ثأراً لكرامته المهدورة.
سرعان ما انتشر هذا الفيروس في كل المدن التونسية حتى أطاح بـ(بن علي) وحاشيته وحزبه، لم تستطع أن تقضي عليه الأمصال التقليدية من قمع بوليسي وصل إلى حد القتل رغم كل ما رصدت له الحكومة التونسية من كوادر أمنية مختلفة التسميات نجحت في السابق في وأد فيروسات أخرى غير هذا الفيروس الذي طوَّر نفسه إلى درجة تهميش فعالية كل الأمصال.
حملته الرياح التي هبَّت من تونس إلى مصر الكنانة، وعندما تنشقته أنوف الشعب المصري المعروف بمسالمته أطاح بنظام لم يكن أحد يتصور إمكانية الإطاحة به لما يمتلك من قدرات أمنية قمعية متنوعة أصابت بالغرور وزير خارجيته الذي نفى بإصرار إمكانية انتقال عدوى هذا الفيروس «الاجتياسي» من تونس إلى مصر، ثم استسلم عندما أفلت من يده، وانتشر هذا الفيروس المطوَّر في جميع المدن المصرية ليستخدم ورئاسته وحزبه الحاكم أمصالاً طوَّر الفيروس نفسه في مواجهتها ولم تجدِ معه لا الجمال ولا القناصة.
ويبدو أن الرياح التي عبرت الأجواء الليبية في طريقها إلى مصر، قد تركت رذاذاً في أنوف الشعب الليبي، إلا أن النظام الديكتاتوري للزعيم الأوحد قد استخدم النار منذ أول وهلة - وما زال - ضد هذا الفيروس مستخدماً أمصالاً مرتزقة لا تزال تدافع عن النظام في مواجهة الشعب بشراسة وبشعار يدعو إلى اجتثاث هذا الفيروس «الاجتياسي» دار دار وزنقة زنقة وفرد فرد.
في ظني مع احتمالية الإثم أن هذا الفيروس «الاجتياسي» لم يكن وحده السبب للاحتجاجات التي سرت كالنار في الهشيم في الدول العربية الأخرى كاليمن وسوريا والجزائر والبحرين، إذ إن في هذه الدول فيروسات كامنة عرقية أو انفصالية أو مذهبية كان الفيروس «الاجتياسي» مجرد الصاعق الذي فجَّرها.
ولأنه لا يمكن لأي مراقب أن يحصي الفيروسات الكامنة لدى أي شعب من شعوب المنطقة المضطربة أحوالها، كما أنه لا يمكن التنبؤ بوقت استيقاظها، وهل ستتيقظ بالحالة التي كانت عليها قبل أن تكمن أم بشكل مطوَّر قادر على التصدي لأمصال الأجهزة الأمنية؟ وهل ستستطيع أن تحقق ما حققه الفيروس الصاعق «الاجتياسي» في تونس ومصر؟
تطورات الأحداث كفيلة بالإجابة على هذا التساؤل، إذ إن التحليل والقياس غالباً ما يفشلان في الرمال المتحركة عند محاولة استشراف المستقبل، خاصة وأن هذه الرمال ليست نقية، فشوائبها كثيرة منها ما هو طارئ ومنها ما هو داخلي بحت أو خارجي بحت، ومنها ما هو اتحاد بين الداخل والمؤثرات الخارجية التي قد تكتفي بالتصريحات الصحفية أو ترتفع إلى إصدار البيانات الرسمية أو تفرض عقوبات اقتصادية أو تتجاوز ذلك لتصل إلى استخدام القوة العسكرية تحت غطاء أممي سياسي بقرار من مجلس الأمن أو إنساني بقرار تقصي يصدر من منظمة حقوق الإنسان أو بإحالة ما يتعرض له شعب ما من عنف غير مبرر إلى محكمة الجنايات الدولية، رغم ما يشوب هذه الإجراءات الأممية من ازدواجية في المعايير تزدري مبادئ الأمم المتحدة التي تحمي الأمن والسلم الدوليين.
info@almullalaw.com