عندما يخرج العرب للشارع ويتفقون بصوت واحد، مطالبين برحيل النظام، النظام الذي فشل في تحقيق تطلعاتهم، النظام الجاثم على صدورهم وعلى مستقبلهم والمستبد بمواردهم. هم بذلك يريدون رحيل النظام وليس إصلاحه. فالصلاح هو الأصل في كل نظام جدير بالولاء، ولكن إذا سرى فيه الفساد بات جديراً بالرحيل، فالنظام الفاسد لا يصلح، ففساد النظام هو عفن في الفكر والقيم والممارسة، والعفن تحوُّل بيولوجي لا يرتد، هذا النظام وتمادياً في فساده يستبيح المواطنين الراغبين في رحيله، فيتهمهم بالخيانة والعمالة ثم يعتدي عليهم ويهينهم ويقتلهم باسم الشرعية التي يدّعيها، فما هي الشرعية التي ترتكئ عليها نظم القمع والطغيان؟ من يمنحها؟ ومن يستحقها؟ ومن يسلبها؟ ومن يحتكم إليه وبها؟
الشرعية هي الصلاحية المستحقة لنظام سياسي كي يمارس الحكم بصورة منسجمة مع التفويض الذي يمنحه الشعب للنظام، ويكون هذا التفويض مؤسساً على قواعد حقوقية، شرعية ربانية، أم دستورية علمانية، وفي كلتا الحالتين ليس هناك شرعية مطلقة لأي نظام كان، وإنما هي صلاحية محددة بأطر ضابطة تقيّد من تصرفات النظام في الحدود التي تضمن الأمن والخدمة العامة للشعب، ومتى تجاوزت التصرفات التي يقوم بها النظام حدود الصلاحية التي خوَّلها الشعب بات مصدر إيلام وقهر لذلك الشعب، فالتصرفات غير الشرعية تستلزم المُساءلة والتجريم إن لزم الأمر، ومتى أصر النظام على التمادي في مخالفة التفويض الشعبي والتصرف بتجاوزات لشرعيته، فإنه في نظر بعض الحقوقيين يفقد التفويض الشعبي بمجمله، ويصبح نظاماً مارقاً قاهراً لإرادة الشعب ومهدداً لمصالحه يجب تجريده من السلطة واستبداله بنظام جديد.
الأنظمة في البلدان العربية التي خرج أهلها للشوارع والميادين يطالبون برحيلها، تلك الأنظمة فقدت شرعيتها بمجرد إرادة معظم الناس ذلك وتحقق مروقها عندما واجهت الناس بالحديد والنار لتقهرهم وتقتلهم بغية سلبهم حق الاعتراض عليها. هذه الأنظمة المارقة بما تتحكم به من سطوة في السيطرة وقوة في السلاح تحتمي بشرعيتها لتنفذ قهرها لخروج الناس والمطالبة برحيلها، وحتى تحتمي بالشرعية فهي دائماً تدَّعي بأنها تحمي الناس والنظام من الخارجين عليها، الذين تسميهم المتآمرين والخونة والإرهابيين، فتستبيح دماءهم وأرواحهم في عملية قمعية استبدادية، وتتمادى تلك الأنظمة في الخروج على شرعيتها مع تعاظم الاحتجاج عليها والإصرار الشعبي على زوالها حتى تتحول لسلطة معادية للشعب تقمع وتقتل بصورة إبادة منظمة لإرادته، مما يستدعي استثارة التحرك العالمي لحماية الشعب من صلف النظام المارق.
لماذا تتحول بعض الأنظمة العربية لأنظمة مارقة على إرادة شعوبها؟ وتسلب حقهم في تقويم النظام وإلزامه بشرعية التفويض، الأنظمة العربية بُنيت على خلل في فهم الشرعية، فهي تفترضها ولاية شاملة لازمة للشعب ليس له الحق في نقضها أو مراجعتها، وما عليه إلا السمع والطاعة، ولهذا السبب يتحوَّل النظام لطبقة اجتماعية برجوازية تستبيح وتستأثر وتتحكم وتستغل بدون وازع أو رادع، هذه الذهنية العربية تأسست على تراث سياسي عربي مختل البنية الحقوقية، فحين يشرع الإسلام وهو دين معظم العرب الحكم في صورة بيعة تحمل مضمون الاتفاق والتفويض مشروط بالاقتداء بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحكم والعدل والإدارة، نجد أن فقهاء المتأخرين وتحت ضغوط حكام الاستبداد قد ألزموا الناس بالسمع والطاعة للمتغلب بالسطوة وقوة السلاح، واختزلوا حقوق الناس في انتخابات صورية وتمثيل منقوص فيمن يُشار لهم بأهل الحل والعقد، هذا الخلل الذي تغلغل في مفهوم الحكم على مدى التاريخ الإسلامي منذ عهد معاوية، كان السبب في التخلف والاستبداد الذي تعيشه معظم الدول العربية، فلو أن المسلمين التزموا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الاستدلال بتلك السيرة في صياغة نظام سياسي يقوم على تنظيم حقوقي مستمد من الشريعة وآلية نظامية لاكتساب الشرعية من خلال التفويض الشعبي والمتمثل بالبيعة لكان حال المسلمين عامة والعرب على وجه الخصوص أحسن مما هم عليه الآن.
لا أعتقد أن الوقت قد فات لمن يريد أن يجتهد ويبحث في السيرة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين عن تأصيل حقيقي للشرعية، حيث كان الخلفاء الراشدون يعون حدود تلك الشرعية فكانوا راشدين في حياتهم الخاصة وراشدين في معاملة الناس وراشدين في تطبيق العدل بين الناس وراشدين في موارد الدولة وخزينتها وراشدين في محاسبة أنفسهم قبل محاسبة الآخرين، وكل ما تحتاج له أنظمة اليوم العربية هو الاقتداء بتلك السير لتكون في صلاح مع شعوبها.
m9002m@gmail.com