نقرأ اليوم كثيرا عن تعنيف الأطفال والعنف الأسري وقلما نسمع عن الحب والحنان الطبيعي الذي يملأ قلوب الغالبية نحو أطفالهم بل وأطفال غيرهم.
كلما أطلت علينا قضية مقلقة أو مؤلمة تتعلق بالصغار، لا نستطيع تقبل تفاصيلها أو تداعياتها المحتملة, يتمحور وقوف القارئين في موقفين ورأيين يكادان يكونان متناقضين: الموقف الأول أن حالات الضرب والعنف تبدأ من الطفولة وتستمر بالسكوت عنها إلى الصبا والشباب؛ ويمكن منع تداعياتها التي قد تصل إلى الموت أو إحداث تشوه لمدى الحياة, لو أن المجتمع تنبّه وتدخّل، والمشرعين وضعوا قوانين تجرم حدوث العدوان وتحدد عقوبات لتجاوزات الأبوين أو الأقارب المعتدين أو المتحرشين جنسيا أو حتى التواطؤ بالسكوت عن هذه الجرائم. أما الموقف الثاني فيتركز همه في حماية السمعة، يطلب عدم تكبير التجاوزات وتأطيرها كظاهرة وتأثيم كل المجتمع بها لأنها تجاوزات أفراد تدخل ضمن الفعل النادر الشاذ والأفضل عدم الإشارة إليها لكي لا تصبح ضمن المعتاد وقد تشجع آخرين.
في الأسبوع الماضي عايشت عبر الفيسبووك حالتين متناقضتين: الأولى كانت تجربة إيجابية؛ إعلان وصلني عبر الشبكة عن فقدان عائلة معروفة لابنها في الرياض وهو شاب توحدي في السادسة عشر من عمره فتح باب السيارة وخرج وفقدوا أثره ليومين أو ثلاثة. وطلب القريب الصديق المعلن على الفيسبووك وتويتر تعاون من يقرأ الخبر بنشر أوصاف الشاب, والتواصل والإعلام عن رؤيته أينما حدث ذلك لتصغير دائرة البحث عنه جغرافيا. وفعلا تكونت فرقة عمل تطوعي تجاوز عدد أفرادها الخمسمائة من الجنسين لنشر الخبر والبحث عنه فعليا في شوارع الرياض في المنطقة التي شوهد فيها ومتابعة لتحركاته عبرها. كان تفاعل أفراد المجتمع - تعاطفا عفويا وجميلا وصادق النية- ظاهرة تثلج الصدر وتستنفر الدمع في العيون, حتى وبعض الردود والاستجابة بالدعاء تأتي من مناطق أبعد: جدة والدمام وأبها. شخصيا ظللت - وأنا في الظهران لا أعرف العائلة شخصيا ولا الشاب المفقود- قلقة وكأنهم أقرباء لي وأدعو أن يجده أهله سالما. وكم فرحت حين تم ذلك وطمأنونا أنهم وجدوه ضحى اليوم الثالث.
والحالة الثانية هي ردود الفعل نحو حوار أذيع وتناقله اليوتيوب عن برنامج شيخ دين تلفزيوني مع شابة اتصلت لتقول له إن أباها يتحرش بها جنسيا وتطلب رأيه: فكان ضمن رده الطويل أن برر ما حدث بأن الأب «شاب ينفعل بما يرى, ويتفاعل معه» موحيا أن الذنب هو تصرف الفتاة وكأن الطبيعي أن ينفعل الرجل بابنته جنسيا حسبنا الله عليه؛ مستطردا أن عليها أن تحتشم في ملابسها أمام أبيها وأن لا تجلس معه إلا مع أمها. وصار خلو الأب من عاطفة الأبوة أمرا طبيعيا.. وتصرف الفتاة هو السبب!!
وطبعا انقسمت ردود فعل القراء بين السخط على هذا الرأي، وبين مساندته؛ ربما لأنه صدر عن «شيخ» يجلون كل ما يصدر عنه فيغضون النظر عن تجاوزاته في تبرير الفعل الشائن.
وغض النظر هو ما أقلقني لأن القضية ليست مسألة تقبل رأي, بل مساندة فئة من المواطنين تتعرض للاستغلال بسبب موقعها الأضعف أسريا ومجتمعيا، ثم حين يحكم قانون الخصوصية الذي يبيح إدخالها تحت «المسكوت عنه» فتضيع حقوق الضعاف.
وأقول من الضروري استنفار شعور المجتمع بالمسؤولية عن أي خطر في ممارسات أفراده, وإشراكه في حل مشاكل الأفراد الأضعف وغير القادرين على حماية أنفسهم سواء داخل البيوت أو خارجها. ضروري أن يسن ويفعل تشريع يقر تدخل الجيران بالتبليغ - وليس فقط المناصحة - إذا حدث ما يسيء لطفل أو ضعيفة أو عاجز. قانون الخصوصية السرية وعدم التدخل والسماح باستمرارية «المسكوت عنه» من تصرفات الأفراد المضرة بالقريبين والبعيدين للحفاظ على السمعة يجب أن يستبدل بقانون المجتمع مسؤول بكل أفراده عن تصحيح التصرفات الخطأ وتثبيت التصرف الصحيح وتقديم العون. ولا مجال للصمت احتراما لرغبة العائلة أو شهرة الفرد المتعدي, أو علاقة شخصية به.