عاصرت (المهرجان الوطني للثقافة والفنون) (الجنادرية) زهاء ربع قرن، أختلف إليه كما لو كنت من أهله الأقربين مدعواً أو مشاركاً أو مستشاراً بما يفتح الله به علي وعلى زملائي مجموعة المشورة من مختلف الأطياف.
ولقد كنت بهذه الدعوات الكريمات وبتلك الإسهامات المتنوعة وبذلك التواصل المستمر من شهود العيان الذين خبروا كل شيء، وحين أتحدث عن تلك التظاهرة الثقافية الحولية وما خلفته من إنجازات موثقة بالصوت والصورة والحرف وما جسرته من فجوات بين النخب والثقافات العربية فإنما أتحدث عن أشياء أعتز بأني مزروع فيها ومتفاعل معها، ومواكبتي لتلك الفعالية الثقافية من أول يوم أضافت إلي معارف ومعرفة وتجارب وإسهامات وتقدير تمثل بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى قلدني إياه خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وتلك مكاسب تفوق تطلعاتي.
وحديثي المعاد عن تلك المنشأة الواسعة الانتشار المتعددة المهمات لن يكون ثناء على المنجزات ولا شكراً للمنجزين، وإن كانا معاً أهلاً للثناء المستفيض فهو من باب إشهار الفضائل وتقريب القدوة كما أنه ليس تذكيراً بما حصل إذ هو حاضر في المشهد والذاكرة ولا تزكية لمن أنجز، فالمنظومة ومن فيها كتصور (الجاحظ) للمعاني بوصفها مطروحة في الطريق، وما أنجزوه من أعمال إنما فعلوها لأنها جزء من حقوق الوطن والمواطنين عليهم وممارستهم جزء من رسالتهم في هذا القطاع الأمني الذي عمد منذ النشأة الأولى إلى توسيع مجالات عمله ولئن كان ثمة شكر أو دعاء فإن ينصرف للمتوفين والمتقاعدين الذين ترجلوا عن صهوات جيادهم ممن عايشناهم وخبرنا معدنهم الكريم وأداءهم السليم، ونخص بالذكر والشكر صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز -حفظه الله- ومعالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري -رحمه الله- ومعالي الدكتور عبد الرحمن السبيت وسعادة الأستاذ عبد الرحمن الشثري -حفظهما الله- وآخرين لا أذكرهم وإن وعى تاريخ المهرجان بعض ما صنعوا، والقائمون على الفعاليات عبر تاريخ المهرجان ليسوا بحاجة إلى الثناء أو المجاملة ولكنهم أحوج ما يكونون إلى النصيحة والمشورة لتدارك بعض الهنات التي هي من طبيعة البشر وبخاصة بعد أن تسنم المسؤولية صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز خلفاً لمؤسس الحرس وراعيه الحقيقي خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله وأمده الله بعونه وتوفيقه.
لقد كنت ولما أزل عضواً في مجموعة المشورة، وكان صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد الله ومعالي النائب وبقية الكوكبة من أحرص الناس على سماع الرؤى والتصورات، وكان هناك فريق من العاملين الذين يرصدون بكل دقة ما يتداوله فريق المشورة، ولقد يتمادى بعض الطامحين في مطالبهم ويسرفون على المهرجان وعلى أنفسهم وكانت الطموحات والتطلعات من المباح غير المملكن ومع ذلك لم يكن هناك امتعاض ولا تردد في توسيع قاعدة الحوار بين كافة الأطياف، وسر نجاح المهرجان في هذا الانفتاح وتلك الرغبة في استجلاء الآراء ورصد التصورات والأخذ بأحسنها.
ولأن المنظمين تواقون إلى الأجد والأجدى فقد نوعوا في مجموعة المشورة بحيث كان من بينهم العالم والأديب والمفكر والإعلامي والمجدد المسرف في التجديد والمحافظ الموغل في المحافظة والمقلد المتهالك على التقليد، ولقد يكون لهذه التشكيلة المتنوعة آراء متباينة، وقد تعلو نبرة الجدل ويحتدم النقاش وتتشعب الآراء، ويظل سقف الحرية ينداح شيئاً فشيئاً حتى لا تكاد تشعر بقيد، وتتباين وجهات النظر حتى يستبعد المحافظون الوصول إلى كلمة سواء ترضي كل الأطراف وتحافظ على خصوصية البلاد، وفي ذروة التصعيد والتعقيد تأتي لحظة التنوير ونفض سامر القوم عن توصيات متوازنة مرضية لكل الأطراف مستجيبة لكل الرغبات وعندما تبدأ الفعاليات يمتعض البعض، ولكن الروح السائدة والأهداف السامية تستل السخائم وتذيب التحفظات وتمر النشاطات كما لو كانت من صنع الرأي العام.
والجنادرية بدأت بسباق الهجن في أرض فضاء كنا نقضي فائض الوقت في مخيمات مؤقتة وفي كل عام تتسع مهماتها وتتعدد نشاطاتها وتتنوع اهتماماتها حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم مدينة سياحية مكتملة الخدمات يأتيها الزوار من كل جانب، ولا يستوعبون في يوم كامل جانباً من مواقعها ومعروضاتها وأسواقها ولا يأتون على الأكلات الشعبية فيها، والذين يمرون بها وهم يجهلون إمكانياتها يصابون بالدهشة مما فيها، ومن الخطأ الكبير أن تكون معطلة طوال العام مع هذه الإمكانيات وحقها على جهات الاختصاص أن تكون مشرعة الأبواب طوال العام بحيث تتضافر الجهود للوصول بها إلى مدارج الكمال فما عادت مناسبة أدبية حولية تمر كأي فعالية، ولقد يكون من الأجدى والأهدى أن تتعهدها جهات ذات اختصاص تقع في صميم مهماتها كوزارة الإعلام والتعليم العالي ورعاية الشباب وهيئة السياحة والشؤون البلدية والقروية وسائر المؤسسات الثقافية من أندية وجمعيات لأنها بإمكانياتها تعد حدثاً وطنياً.
والذين يدعون إليها من أنحاء الوطن العربي وبخاصة أدباء ومفكرو المنافي الذين حرموا من دفء الوطن يبدون إعجابهم وتطلعهم ويودون لو كان لكل واحد منهم دوره في الفعاليات الثقافية والأماسي الشعرية والقصصية، وما أكثر ما قدم من مقترحات حول بناء مساكن شعبية للضيافة وقاعات لتنفيذ الفعاليات في موقع الجنادرية ليتمكن الضيوف من الداخل والخارج من المرور على كافة المواقع التي أنفق في تأسيسها وتشغيلها الشيء الكثير من الجهود والأموال فكل إمارة منطقة تبعث الموظفين والمرشدين وأصحاب الحرف والفنون وتنفق عليهم عن طريق الرعاة أو من صناديق النشاط المنشأة لهذا الغرض وقد لا تتكافأ الاستفادة والإنفاق الجهدي والمالي واستثمار مثل هذه الجهود يتطلب تكثيف الحضور وبخاصة للذين يأتون مدعوين من أنحاء العالم من أدباء ومفكرين وعلماء وساسة.
لقد أحسنت الجنادرية في دورتها السادسة والعشرين حيث نفذت بعض الفعاليات في بعض المناطق وتلك مبادرة طيبة ولكنها لما تزل في مرحلة التجريب وعسى أن تطور هذه الفكرة ليكون هناك توسع في الفعاليات وتعدد في المواقع على أن هذه المنشآت وتلك الميادين والساحات ومقرات المناطق والشركات والمؤسسات والأسواق ومختلف المناشط الاستثنائية لا يمكن استيعابها بثلاثة أسابيع من كل عام لتطوى صفحاتها إلى العام القادم، ثم إن نهوض الحرس الوطني بالمهمات كلها إجحاف بحقه وحق المهرجان ذلك أن ما ينفذ ويمارس يتطلب قطاعاً وظيفياً يفوق طاقة وزارة بحالها، فالصالات والقاعات والمباني والحدائق والأسواق تأكل عمرها الافتراضي ما لم يكن هناك تكافؤ بين ما يبذل من جهود وأموال وما يستفاد.
لقد أصبحت الجنادرية بمنشآتها ومعروضاتها وإسهام المناطق فيها مدينة سياحية مكتملة الخدمات، وليس هناك ما يمنع من تمكن المنتفعين من خدماتها بحيث تنفذ الوزارات والجامعات وسائر المؤسسات مؤتمراتها ولقاءاتها ومهرجاناتها طوال العام، فهذه المنجزات لا يمكن قصر خدماتها على فترة الجنادرية كل عام هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من تطوير خدماتها ومهماتها وتوسيع أدائها بحيث تواكب المرحلة المعاشة فالمملكة تتطور يوماً بعد يوم وإمكانياتها وظروفها تؤهلها لتكون من دول العالم المتقدم وحق منشآتها الثقافية أن تأخذ بعداً عالمياً يمكنها من طرح ذاتها على ما هي عليه من شمولية في التقدم وتوازن في التغيير.