الخط الفاصل بين المعرفة والدجل رفيعٌ جداً، ولا يميّزه إلا من تمرَّس في المعرفة، أما مَنْ يستجدي معرفة معلَّبة جاهزة فقد يشتري بثمنها عن غير قصد دجلاً. وللدجالين على مدى العصور أتباع ومريدون أكثر من أتباع أصحاب المعرفة الحقة؛ فالدجل يُزيِّن ويزركش بما يجعله أكثر جاذبية من المعرفة القاسية المملة.
والدجل، كما يورد الدكتور حنا غالب، إظهار الأمر بغير حقيقته، والتظاهر بغير الواقع، وتصنُّع المرء ما ليس لديه، وادعاؤه غير ما عنده. ومن ضروب الدجل: الزعم الباطل، والانتحال، والمراءاة، والمداهنة، والتكلُّف، ويُطلَق على مَنْ يمارس الدجل صفات كثيرة، منها: المتعنفص، والمدعي، والمتفيش، والمتلهوق، ونستطيع إضافة بضع صفات حديثة أخرى، مثل: المنتهز، والمتسلق، والمتسلوق، وغيرها من عبارات؛ لأن الدجل مرنٌ إلى درجة كبيرة، ويتصف بصفات جمة متنوعة؛ فعوالم الدجل متعددة، وهي عوالم ساحرة أيضاً. والدجل ضرب من ضروب السحر، ولا يفت عضده إلا جدلٌ مِنْ صِنْفه ورُتْبته.
أما «المعرفة» فلم يجرؤ على محاولة تعريفها عاقل لارتباطها بمفهوم آخر أصعب وأمنع، مفهوم الحقيقة. وهي كلمة جامعة شاملة عصية على التعريف، ولفظة مرنة مطاطة صعبة التحديد. وهناك عِلْم كامل يُدعى «علم المعرفة» أو الابتسيمولوجيا، يحاول ويحاول ويحاول منذ زمن بعيد فَهْم أسس المعرفة, وأحوالها، ولم يجرؤ على تحديد تعريف مقبول لكُنْهها؛ فالمعرفة لم تكن ولن تصبح موضوعية، والذين يقولون بالموضوعية الكاملة للمعرفة هم مَنْ يمارس الدجل باسمها.
وللمعرفة صلة وثيقة بالتصديق والاعتقاد؛ فما نُصدِّقه أن يكون المعرفة هو المعرفة بالنسبة إلينا، حتى الدجل عندما نصدقه ونؤمن به يتحول لمعرفة، وقد تكون معرفة راسخة بمدى رسوخ اعتقادنا فيها. وللمعرفة أيضاً علاقة وثيقة بالألفة من خلال التجربة الواقعية. فعندما يألف الناس أمراً ما لوقت طويل يتحول لمعرفة حتى ولو كان غير ذلك. وقد نصدق اليوم شيئاً لنسخر منه غداً، والعكس صحيح. ومن هنا كانت المعرفة من لزوميات الدجل، ويمكن القول بأن أحدهما ضروري لوجود الآخر، بل هو نصفه الآخر غير قابل التطليق منه.
وقد تكاثرت علينا اليوم ادعاءات الصلة، والوصل والوصال، والتشبيب والتغني بجمال مجتمع المعرفة. ومن كثرة الندوات والمؤتمرات، واللوحات، وبرامج التدريب، والبرامج الفضائية، والخطابات، أضحينا كخراش لا ندري ما نصيد، ولم نعد نستطيع من كثرة ما يتساقط على رؤوسنا تمييز المعرفة الحقيقية من الدجل. وأصبح البعض يمارس الدجل باسم المعرفة، وهجرنا بعض معارفنا الأصيلة على أنها دجل. ونتساءل اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هل من الضروري أن نسبح في بحار من الدجل؛ لنصل إلى شاطئ مجتمع المعرفة المنشود؟ وكم هي «الكروة» النهائية للوصول لشاطئ المعرفة المحفوف بمخاطر الدجل، وكم تسرب من مواردنا النفيسة في قوارب بحر الدجل؟ وهل بوصلتنا فعلاً تحمل رؤية حقيقية لبر أمان المعرفة؟ وهل رسالتنا رسالة معرفة أم أن حجنا هو لامرأة ننشد وصلها حتى ولو من قبيل الدجل؟
المعرفة، من قبيل التذكير، ليست صادقة دائماً؛ فهناك معارف زائفة، وأخرى مخادعة، وثالثة مضللة، ولكنها في نهاية الأمر معرفة. وعندما يوهمك شخص ما بأنه يُقدِّم دعاية لمنتج ما من قبيل التعريف التثقيفي لهذا المنتج، وليس لتسويقه والتربح منه، فهو يُقدِّم لك معرفة حقيقية مضللة كضرب من ضروب الدجل. وعندما يبيعك عطار شاياً قديماً على أنه يخفف الوزن؛ فتشربه ويزيد وزنك، أو يصف لك وصفة عشبية لتطببك فتمرضك، فإنه يُقدِّم لك معرفة حقيقية بطرق استغلال جهلك وسذاجتك حتى ولو كانت حقيقتها مخادعة ومحصلتها دجلاً. وعندما يوهمك مشعوذ بأن في داخلك جنياً وأنت لا تعرف ذلك، وهو فقط يعرفه، فهو يُقدِّم لك معرفة حقيقية بكيفية إقناعك بما ليس فيك، ومَنْ يمارس تلك المعرفة عليك يود حتماً أن يعرف إن صدقت ما الحدود التي يمكن أن ينتهي إليها الدجل.
الجميع ينتظر مجتمع المعرفة الخالصة، ذلك المجتمع الذي ما فتئنا نتغنى به وكأنما هو حورية تنتظرنا تحت سطح البحر، أو أنها عنقاء ستنبثق فجأة من رحم الصحراء، أو نيرة نخرجها من محارة في شبكة خبير أجنبي، أو خزنة بيت خبرة تجاري. ولكن ماذا لو أخرجت لنا شبكة هذا الصياد غثاء مليئاً بالأخطاء لا يمت بصلة بالمعرفة بل هو نوع من «التفيش»، أو «الهيلقة» التي تتلبس لبوس المعرفة، ثم نصر على أنها المعرفة بعينها؟ وكيف يكون حالنا إذا عرفنا أن بضاعة بيت الخبرة لا تعدو كونها غثاء يقتات على كسلنا وتقاعسنا؛ لأنه لا يعدو كونه استجلاب مَنْ يفكر في أمورنا نيابة عنا؟ وماذا لو دعاك أحدهم إلى وليمة معرفة؛ لتخرج وقد أصابتك تخمة من الدجل؟ وماذا لو استمرأ متلهفو المعرفة الدجل وتعوَّدوا عليه، وأدمنوه، وأصبحوا يصابون بالغثيان من المعرفة الحقيقية؟
المعرفة الوهمية والدجل الحقيقي مثل وترَيْن في ربابة يعزفان ألحاناً متداخلة لا تستطيع تمييز الأول من الثاني، وكلما كان العازف الدجال ماهراً طربت المؤسسات، وإذا تعالى صوت العزف واستمر ترديده اهتزت أردافها. والإدمان على الدجل مثل إدمان المعرفة، وقد عاشت أمم حِقَب من الدجل وهي تحسبها تعيش المعرفة، وقد علق الدجالون في أمم كثيرة أصحاب المعارف على رؤوس المشانق ليس قتل لأرواحهم، بل شكراً لهم، وتخليداً لذكراهم؛ لأنهم مهَّدوا درب الدجل لهم؛ لأن الدجل ليس إلا معرفة غير مكتملة أو منحرفة، جنين «خديج» يخرج من رحم المعرفة وهو غير مكتمل النمو. حتى المعرفة ذاتها لا تستطيع أن تميَّز أحياناً من الدجل.
الدجل المركَّب، أو دجل الدجل، هو تظاهر «العارف» السعي للحصول على المعرفة، وقد بيَّت النية بسابق معرفة لتحقيق شيء آخر لا صلة له بها. والدجل هو أن تتملق الجوقة «العازف» بكثير من «التلهوق»، وتطبِّل له وتتمايل على أنغام ربابته؛ لأن طريق الدجل أصبح أكثر جاذبية وغواية من طريق المعرفة. وغاية الدجل أن يصدق الجميع الدجل على أنه معرفة نفعية؛ ليصبح الدجل هو المعرفة، بينما ينظر للمعرفة على أنها ممارسة مملة غير ذات نفع مباشر.
من الدجل أن يخرج علينا مدرِّب لم يخط شاربه بعد ليعلمنا كيف نقول «لا»، وأن «لا» تعني «نو» و»معصي»، و»مالك لوا»، وأن مصائبنا هي في أننا لم نستبدل بها «نعم» و»ييس»، و»أبشر»، و»لا يهمك»، فنقف مشدوهين بقدرته على نقل تلك المعرفة. ومن الدجل أن يترك الناس المعرفة ليبيعوا للمساكين السعادة الكاملة والدائمة على شكل وصفات مغلَّفة في عِلَب جميلة من جميع عبوات الدجل، فتضيق دنياهم بالراكضين وراء وَهْم في غمرة سعادة الدجل. ومن الدجل أن يدعوك دجال لتدفع من حُرّ مالك مقابل تعليمك كيف تحاور زوجتك بينما هو لا يرى زوجته إلا في الهزيع الأخير من الليل بعد التفرغ من عد الدراهم! ومن الدجل أن تتزين مؤسساتنا بأحدث زينات شركات دعاية المعرفة بينما داخلها معظمه دجل. ومن الدجل ألا نعي بأنا مضطرون لاجتراع الدجل.
مسكينة هي المعرفة التي تحتضر اليوم؛ فهي تنتظر ساعة الخلاص لعلها تبعث في زمن أو عصر آخر لا تخنقها فيها أموال الدجل. مسكينة هي المعرفة التي أصبحت مجرد شعارات ويافطات مثلها إشارات المرور، ويافطات المطاعم. ومسكينة هي المعرفة التي أصبحت كلمة جوفاء في أفواه بعض «المتفيهقين» مما لا تربطهم صلة بالمعرفة الحقيقية، ومسكينة هي المعرفة التي أصبحت نوعاً من التراجيديا الساخرة في عوالم مسارحنا الفضائية. ومسكينة هي تلك النبتة الطيبة التي خنقتها حشائش الدجل المسمومة. وفي النهاية نود القول إن صاحب المعرفة الحقة مات وفي نفسه شيء من «حتى»، وقد يتجاوزنا الزمن وفي أنفسنا شيء من «لو».