في الدورات العمومية للأمم المتحدة في نيويورك يحرص المندوبون عادةً على الحضور بملابسهم الوطنية. حاول أن تتفرج في اليوتيوب على إحدى الدورات العامة للأمم المتحدة ولكن تفرج بعيونك فقط. ألغ سمعك نهائياً أو ضع سدادتين في أذنيك. لا تعر ما يتفوه به أعضاء وفود الأمم والشعوب المختلفة أيّ انتباه. حاول أن تتنبأ فقط بما يحمله المندوب في رأسه وما سوف يقوله هذا وذاك المندوب وهذه وتلك المندوبه من أشكال ملابسهم وكميات القماش والألوان فيها ومن الاهتمام التمثيلي الوطني بالقيافة المظهرية وعدد الحركات اللاإرادية لتعديل ما مال أو ستر ما انكشف أو ترتيب ما تكرمش وتهدل.
نبدأ بالدولة المضيفة، الولايات المتحدة الأمريكية. سوف تكتشف أن كل عضو في الطاقم الأمريكي يرتدي ملابس أقرب ما تكون إلى الرثاثة. الرجل يلبس بدلة وربطة عنق من مراكز التسوق الشعبية للملابس، البدلة بكل قطعها بحدود ثلاثمئة دولار وربطة العنق بخمسة دولارات. المجموع مع الحذاء والجوارب لا يزيد في كل الأحوال عن خمسمئة دولار، أيّ ما يقل عن ألفي ريال سعودي. هذا يعني أن أغنى دولة في العالم تصرف على ملابس طاقم من عشرة رجال عشرين ألف ريال سعودي تقريباً. ملابس الأعضاء الإناث في الطاقم الأمريكي يقف لها شعر مندوبات العالم الثالث. رئيسة الوفد الأمريكي السيدة سوزان رايت لا تكلف دولتها بما تلبسه مبلغاً يستحق القراءة. انظر إلى ملابس وزيرة خارجيتها لتعرف أن الحرص على الفخامة المظهرية ليست من أولوياتهم. المهم عندهم أن يكون اللباس عملياً لا يعيق النظر والسمع والحركة. ملابس أعضاء كندا وأستراليا والاتحاد الأوروبي تحمل لمسة أناقة أفضل قليلاً من مثيلتها عند الأعضاء الأمريكيين لكن الفرق ليس كبيراً. الطليان والفرنسيون يبدون أكثر حرصاً على الأناقة من الألمان والإنجليز كالعادة، لكن ليس بما يلفت الأنظار إلى التفاصيل.
تبدأ العناية بالتأنق مع وفد المكسيك وجمهوريات الموز في الدول اللاتينية. كلما زادت مظاهر الفقر في واحدة من دول أمريكا الوسطى والجنوبية والكاريبي ظهر مندوبها أكثر تأنقاً وملابسه وخواتم أصابعه أشد إثارةً وبريقاً. أعضاء وفود اليابان لهم جميعاً نفس المظهر. ملابسهم كلهم كأنما استلموها من نفس المتجر ومن نفس الخزانة وليس فيها سنتيمتر واحد زائد عن الغرض المطلوب منها. الصينيون يختلفون ويحرصون على تفخيم الملابس وربطات العنق وهذا يبدو كما لو كان غير متوقع منهم. أعتقد شخصياً أنه تصرف متوقع لأن الصينيين قريبو عهد بفقر وحديثو عهد بثروة ويريدون القول للعالم نحن هنا، نحن أغنياء وأقوياء وضعوا ذلك باعتباركم.
من بقي بعد من الوفود؟.. بقي الأفارقة والعرب الذين يحرصون على حضور الدورات العامة للأمم المتحدة بملابسهم الوطنية. يلفت النظر في المندوبين الأفارقة وفرة القماش والألوان. العمامة البيضاء أو لفة الرأس الملونة يبلغ متوسط مساحتها عدة أمتار مربعة، والجلابيب الواسعة ذات التلافيف لها مساحات أكبر من العمائم ولفائف الرأس. يستطيع أي مندوب إفريقي أن يكسي عشرة من مواطنيه من القماش الذي يرتديه لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة. أما الألوان والخطوط والأصباغ فحدث ولا حرج.
يهمني من المندوبين العرب أعضاء الوفود الخليجية. الثوب والكوفية والغترة والعقال... هذه أربع قطع. العباءة العربية المسماة محلياً البشت أو المشلح لتكمل مستلزمات التمثيل الوطني مؤطرة ومطرزة وتنسدل بانسياب إلى الكعبين. مهمة المشي بخفة ورشاقة وسط الوفود والإنتقال من الكرسي إلى المنصة وبالعكس لابد أنها تشكل مهمة صعبةً لأي مندوب خليجي. ملابسه الوطنية رغم فخامتها وأناقتها لا تساعد على الحركة السريعة والعملية والاستدارة والإلتفات نحو مصادر الصوت والصورة. هل انتهيت من الفرجة على وفود الدول في الأمم المتحدة؟. حاول الآن أن تأخذ جولةً على ما تفعله الشعوب بملابسها عندما ينزل المطر في أوطانها. صاحب البنطلون والقميص يجري بأقصى سرعة إلى أقرب ملاذ ليتقي البلل لأنه يستطيع الجري. صاحب الثوب والقفطان والغترة والعباءة سوف يحاول الجري لكن عليه أولاً أن يرفع أسفل جلبابه بإحدى يديه ليحرر ساقيه وأن يضع اليد الأخرى على الغترة والعقال والكوفية لئلا تطير في الهواء. مع ذلك سوف يصاب بما يكفي من البلل بحيث تلتصق ملابسه الرقيقة بجلده وتفضع ما تحتها. الخلاصة ما هي؟. الخلاصة هي أن الملابس كما ترتديها الشعوب وتسميها الزي الوطني لها دلالات وعلامات واضحة على طريقة التفكير وترتيب الأولويات. عند البعض يكون الاهتمام بالمظهر الخارجي على حساب المقاصد العملية في الستر ومرونة الحركة، وعكس ذلك عند آخرين. ترى هل ما نسميه الآن زينا الوطني هو ما كان يلبسه أسلافنا الأوائل عندما فتحوا نصف العالم على ظهور الخيل؟.. لا أظن!.
قل لي كيف يلبس شعب أقول لك كيف يعيش ذلك الشعب وما هي أولوياته.