قبل أكثر من أربعين عاماً، تجمهر الليبيون غاضبين، بعد أن رأوا أن أوضاعهم لا تسر، وأنه طفح بهم الكيل، وبلغ بهم سوء الحال مبلغه، وللتعبير عن ضيقهم ذرعاً بما آلت إليه أحوالهم، احتشدوا حول القصر الملكي بطرابلس، كي يسمعوا موقفهم من الملك إدريس السنوسي، تجمهروا يرددون بصوت واحد، «إبلس ولا إدريس»، أيّ أنهم يرضون بإبليس حاكماً، ولا يرضون بإدريس ملكاً، خرج عليهم الملك إدريس من شرفة القصر، وقد بلغ من العمر عتياً، خرج يستفسر عن أسباب تجمهرهم، ونظراً لثقل سمعه، سأل أحد مرافقيه ماذا يقول المتجمهرون؟ ما مطالبهم؟.. قال له المرافق: إنهم يهتفون «إبليس ولا إدريس»، فهم الملك الرسالة، رد الملك قائلاً: اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
وتحقق للشعب الليبي مراده، تنازل الملك إدريس عن عرش الملك، واستلم الحكم في ليبيا مجموعة من الثوار، يقودهم العقيد القذافي، انتشت الجماهير فرحة مسرورة، وكانت على موعد مع الجماهيرية، ومع مفاهيم أقل ما يقال عنها أنها في منتهى السذاجة والسطحية، سطرت بمفردات من الهذاءات المالوخولية، في كتاب عنون بـ(الكتاب الأخضر)، حتى الآن لم تتبين الحكمة من اختيار الخضرة عنواناً لهذا الكتاب، فمضامينه أقرب إلى اللون الأسود على اعتبار أن السواد عنوان للانطواء والاكتئاب والضيق، التشاؤم واليأس، التعثر والخوف من المجهول، الظلام والعتمة، وحتمية الفشل والمصير المجهول البائس، والمنطق الأعوج الذي لا يمكن فهمه لكونه يفتقد مصداقية القول، وصواب الفعل.
هل أخطأ الشعب في الخروج على الملك إدريس؟.
الجواب: نعم.. فسنن الله تؤكد أن مثل هذا الخروج كان خطأ، فما ترتب على هذا الخروج من تخلف مادي ومعنوي للإنسان الليبي، ودمار لممتلكاته، وتبدل أمنه خوفاً، وسعادته شقاء، يعد أشد فظاعة وبؤساً عما كان عليه الوضع قبل الخروج.
هل تحقق للشعب حلمه ومبتغاه بأن يحكمه (إبليس ولا إدريس)؟.
الجواب: نعم.. فالمؤكد أن ما تعرض له الشعب الليبي خلال الأربعين عاماً الماضية، ومازال يتعرض له اليوم يعد خارج العرف البشري حتى البدائي منه، خارج المنطق حتى مع أبسط مفاهيمه، خارج العقل حتى مع أقل درجاته استيعاباً وفهماً، بل خارج التاريخ حتى في أسوأ مراحله، في كل بلاد الله على وجه هذه البسيطه.
العرف البشري: ينص على أن القائد راع، وهو مسؤول عن رفاهية رعيته، خادم لهم، يفرح لفرحهم، يتألم لآلامهم، يشاركهم في السراء والضراء، يسهل سبل حياتهم، يسهر على راحتهم، وييسر لهم كل ما يحقق لهم الأمن والأمان، يعد نفسه واحداً منهم، له ما لهم، وعليه ما عليهم، لا يستأثر ولا يستحوذ ولا يستكثر، يتحمل الشدائد والنوائب من أجل تحقيق السعادة والرخاء، ليس للإنسان فحسب، بل لكل كائن حي ينضوي تحت لواء الأرض التي يحكمها القائد ويرعى مصالحها.
المنطق: لا يقبل أبداً أن يدعي القائد أنه لا يحكم، وأنه لا سلطة لديه ولا قوة، بينما هو يمسك بكل قسوة وغلظة مفاصل الحكم وأركانه، بكل مداخله ومخارجه، وفي الوقت نفسه يجرد الأتباع من أي سلطة وقدرة، بل وينزع منهم أي صورة من صور التحكم والحكم، ليبقيهم على هامش الحياة الاجتماعية بأبسط صورها المادية والمدنية.
العقل: يرفض تماماً أن ترتد سهام القائد وقواته إلى صدور جنده وأهله، يقتلهم ويشردهم، يمتهن كرامتهم، يسلب حقوقهم، يدمر ممتلكاتهم، يسفك دماءهم، ينتهك حرماتهم، يقتل أبناءهم، يصادر كامل حقوقهم وحرياتهم.
صفحات التأريخ حتى في أحلكها سواداً وعتمة، أشدها ظلماً وعدواناً، لم تذكر أن أحداً من الطغاة الجبابرة، القساة الظلمة، سخر قوته وسطوته ضد أهله وبني جلدته، قد يستأثر أحدهم بسلطة أو ثروة، لكنه لا يمكن أن يكون جلاداً سفاحاً يسفك الدماء ويدمر الممتلكات كما يحصل حالياً في ليبيا.