الكاريكاتير... فن تربع على عرش السلطة الرابعة.. واحتل المقصورة في صفحات الصحف الأولى والأخيرة، وتصدر المجلات الأسبوعية والفصلية وغيرها بخطوطه البسيطة وأفكاره العميقة، فهو سهل ممتنع، وهو سلاح فتاك لا يرحم الخصوم، ويزداد قوة كلما عبر عن الفكرة دون تعليق أو كتابة وهي مرتبة لم يصل إليها إلا المحترفون من رسامي الكاريكاتير وحق لهم أن يفتخروا بها.. فهو كما وصفه الكاتب عادل حمودة: (فن مشاكس.. شرس.. تتحول خطوطه إلى أنياب.. وتعليقاته إلى أظافر، وسخريته اللاذعة إلى طلقات تصيب الرؤوس الكبيرة بالذعر وتحطم حالات الوقار المرسومة على ملامحهم.. وهو لا ينجح إلا إذا كان مثل عيدان الكبريت.. تحرق البطش والفساد.. وإلا إذا كان مع الناس.. فالفن عندما يكون للناس فإنه يسعى إلى التغيير.. والتغيير يعني خلخلة الواقع وإزالة قشرة الوهم التي تغطيه حتى يظهر على حقيقته بدون مساحيق، وبلا شعر مستعار، ومن غير صدر منفوخ بالبالونات التي يلعب بها الأطفال..) ولأن الكاريكاتير (فن مشاكس)، فقد أودى بحياة بعض الفنانين الذين دفعوا أرواحهم ثمناً للوحة أزعجت الخصوم وربما ألبت الرأي العام ضدهم فكانت لغة الرصاص تطغى على لغة الحوار، وهي سمة يمتاز بها العالم الثالث مع الأسف الشديد.
الرمزية
يلجأ كثير من فناني الكاريكاتير إلى الرمزية للإفلات من الرقابة، أو للخوف من المساءلة القانونية، وربما الملاحظة الأمنية أو التصفية الجسدية من بعض المغرضين.. والمشكلة التي يعاني منها معظم الرسامين هي (درجة الرمزية) التي ينبغي التوقف عندها بحيث لا تتحول الخطوط والظلال إلى طلاسم لا تحمل أي معنى لدى القارئ العادي... وفي المقابل لا يود الفنان أن يضع كل النقاط على كل الحروف حتى تبدو اللوحة سطحية جداً لا قيمة لها.. وهو في النهاية أمام خيارين: إما أن ينزل بفنه إلى مستوى العامة، وقد توصم أفكاره حينها (بالضحالة والسذاجة).. وإما أن يرتقي بالعامة إلى مستوى عال من الفكر.. وقد يستجيب له عندئذ شريحة من المثقفين والمفكرين ويخسر السواد الأعظم من القراء وهم كل مواطن سعودي بالذات وكل مقيم.
كما يعاني رسام الكاريكاتير وبخاصة في الصحف اليومية من استهلاك الأفكار، حيث شبه أحدهم الصحيفة بالفرن الذي يحرق الأفكار، الأمر الذي ينعكس على مستوى هذه الأفكار واللوحات والأفكار ثمينة كاللؤلؤ قلما يحصل عليه الرسام من بين مئات المحاور.
يقول أحد كبار رسامي الكاريكاتير: إنني أسير في الشوارع وبين الناس سادراً شارداً كالمجنون وأنا أبحث عن الفكرة التي تجسد هموم الناس وتعبر عن واقعهم وآلامهم وآمالهم.. فكل كلمة وكل مشهد وكل حادث أو (مشاجرة) أو موقف يمكن أن يوحي لي بفكرة.. سرعان ما تحترق بمجرد نشرها، لأبحث من جديد عن فكرة أخرى...
والفكرة لا بد أن تساير الأحداث وتعكس آراء الفنان بأسلوب متجدد ومبدع وساخر، وهي قدرة لا تتسنى لكثير من رسامي الكاريكاتير في الصحف اليومية.
وميزة الوقت هي التي تمكن الرسام في المجلات الأسبوعية من الإبداع والابتكار وانتقاء الأفكار لعرضها في مشهد جذاب يزدان بالحركة والألوان.
ورأيت رسامي صحيفتنا الأعزاء يضعون لأنفسهم شخصيات تمثل فئات من المواطنين والمقيمين: الرسام: هاجد، الرسام: المرزوق، الرسام: الماضي، الرسام: رشيد السليم، الرسام: عبد الله جابر، الرسام: مفرح الزيادي، والفنانة الرسامة المبدعة المتألقة منال.. لهم شخصيات (خاصة بهم أصبحت معروفة لدى القارئ بل أكثر القراء له مزاج مع رسام معين منهم) وقد كرسوا هذه الشخصيات لخدمتهم في القضية الوطنية التي يواجهونها ولقد دافعوا عنهم وعن حقوقهم العامة والخاصة.
وباختيار الرسام لما يعانونه فقد طرح همومهم بكل طريقة تكون أيسر وأبلغ في إيصال الرسالة للقارئ سواء مسئول أو غيره ورأيتهم أيضا لا يفضلون اختراع كثير من الشخصيات، فكل منهم يضرب على وتر حساس وبرأيي الشخصي أن هذا هو الأمر الصحيح لأن الشخصية الحقيقية هي الشارع السعودي والعربي وكل الناس وكل العالم، واعتبر أن استنباط أي شخصية مرسومة هو ثقل على الرسام وعبء في بعض الأحيان لا يستطيع التخلص منه لأن الشخصية قد لا تجد مكاناً في بعض اللوحات فتبدو غريبة أو مهمشة لا تؤدي الغرض.
ونحن نميل إلى هذا الرأي لأنه يعطي الفنان مرونة وحرية في الحركة واختيار الشخصيات التي يتطلبها المشهد، وخصوصاً أن الشخصية الثابتة تتصف عادة بسيكولوجية معينة قد لا تناسب كل الأحداث الجادة والمرحة في آن واحد.
ويستثنى من ذلك بعض الحالات التي يركز فيها الفنان موضوعاته حول قضايا محددة كما يفعل رسامو الكاريكاتير بصحيفتنا.
وبالعودة للصحف والمجلات ومعظم المطبوعات لم نجد توثيقاً علميا لتاريخ الكاريكاتير في وطننا العربي على الأقل، ولم ينقل عن أحد الرسامين المؤرخين لحركة الفن مكان وزمان انطلاق الكاريكاتير، غير أن الكاتب عادل حمودة ذكر أن أول رسام كاريكاتير في مصر هو عبد الحميد زكي الذي استقال من الجيش عام 1907م ليتفرغ لإصدار مجلة (السياسة المصورة) على غرار المجلة الإنجليزية الكاريكاتيرية اللاذعة (بانش - punch).
وقال: إن أول كتاب كاريكاتير صدر في مصر عام 1946م للفنان (رخا) واسمه (صورة ضاحكة) ورغم مضي نحو نصف قرن على صدور الكتاب إلا أن موضوعات رسوماته لم تبرد بعد، والمشكلات التي يتعرض لها لم تحل بعد.. الصهيونية - العدالة الاجتماعية - رغيف العيش - الفقر - التجار - اللصوص الذين ينبهون قوت الشعب - الغلاء- المهاترات الحزبية - كثرة النسل - مطامع الدول الكبرى - فلسطين - الوحدة العربية.. إلخ.
أي أن الحكام تغيروا والنظم والسياسات والتحالفات مع الدول العظمى.. وبقيت متاعبنا كما هي! فهو يرسم أصحاب الملايين وهم يقولون: (أين الفقر الذي تتحدثون عنه؟).
ويرسم (علي بابا) وأمامه قدور الزيت ويختبئ فيها (الأربعين حرامي) ويكتب على القدور أسماء تجار اللحم والدقيق والأرز والزيت والسكر.. إلخ.
ويعتمد نجاح الكاريكاتير على قدرة الرسام في ترجمة الفكرة إلى مشهد، أو تحريف بعض الكلمات كما يفعل رسامي صحيفة الجزيرة حين حولوا الوصف لكثير من القضايا إلى المسؤولين بطريقة سحرية وسرية.
وربما اعتمد رسام الكاريكاتير على استثمار عبارات مشهورة في غير مواقعها لاستخدامها في التورية.
وقد تميز رسامو الكاريكاتير في صحيفة الجزيرة بخفة الدم والفكاهة والابتعاد عن الموضوعات السياسية اللاذعة التي يغلب عليها طابع الجد، واشتهرت رسوماتهم بالبساطة ومعايشة هموم المواطن العادي ومسايرة الأحداث.
gg55bb@hotmail.com