هناك دول هي من أعلى دول العالم دخلا بالنسبة للفرد، أي أنها من أغنى الدول إذا حسبنا ما تنتجه الدولة ثم قسمناه على عدد السكان، سواء إذا حسبنا مستوى التضخم في ذلك البلد أو تجاهلنه، وسواء أدخلنا الأجانب ضمن السكان أم لم ندخلهم. فعلى كل طرق الحساب هناك دول هي الأغنى، ولكن الواقع يشهد أن مواطنيها هم الأفقر بين دول العالم. وقد يعجب البعض عندما يعلم أن دولا ما، كان يعتقد أنها تستحق الصدقة، فيجدها مصنفة ضمن أغنى دول العالم.
السر في هذا التناقض هو الاستثمار الأجنبي الفاسد. فمثلا قد تجد دولة تعتمد على الصناعة البنكية التي قامت على الاستثمار الأجنبي بتسهيلات واسعة، ثم تجد أن العاملين في هذا القطاع أغلبهم من الأجانب، فتجد الناتج القومي للفرد مرتفعا بينما تجد المواطنين فقراء لأن الأجانب هم المستمتعون بهذا الناتج سواء كرواتب ووظائف أو كأرباح تُرحل إلى بلادهم، وهذه لا يحسبها الناتج القومي بل تظهر في ميزان المدفوعات. ومن الأمثلة كذلك الاستثمار الأجنبي في الثروات المعدنية لبعض البلاد والتي لا تحتاج إلى عمالة كبيرة وغالبا ما تكون العمالة العليا في هذه الاستثمارات من الأجانب بينما يقتصر دور المحليين الوطنين على الأعمال البسيطة. ولو نظرنا إلى الدول من حولنا لرأينا أمثلة شاهدة على ذلك، فيجدر بنا حينها أن نترحم وندعو للمؤسس الأول الملك عبد العزيز رحمه الله الذي حرص على سعودة أرامكو، كما نترحم وندعو للشهيد الفيصل رحمه الله الذي حرص وعمل على الاستحواذ على أرامكو وجعل ملكيتها سعودية بالكامل. الاستثمار الأجنبي الفاسد يكون على شاكلتين اثنتين. الأولى أن يتملك الأجانب المشاريع للأبد ويقتصرون بالخبرات على أنفسهم، وهذا النوع من الاستثمار الأجنبي في حقيقته هو الاستعمار الحديث. والشكل الثاني من الاستثمار الأجنبي الفاسد هو قيام الشركات الأجنبية بتشييد المشاريع وتقديم الاستشارات دون أن تسمح للوطنيين من اكتساب الخبرات وأخذ زمام المبادرة والقيادة في المستقبل، وهذا النوع من الاستثمار الأجنبي هو في واقعه أشبه بجعل الوطن والمواطنين كمزرعة للخيل والصقور، والأجنبي هو من يرعاها ويقوم بخدمتها وخدمة من فيها. فلو طال الزمن أو قصر فلن تتعدى الخيول والصقور من كونها عجموات عاجزة عن الاستقلالية وكون الأجنبي أعلى وأرقى منها درجة ومكانة. مرت بلادنا بفطرة السبعينات والثمانينات فكانت خير مركز لتدريب الأجانب وأكبر حقل تجارب للمعدات والابتكارات الأجنبية حالنا كحال دول الخليج الأخرى، فالجميع معذور آنذاك. وها هو الزمان يعيد نفسه وهاهي بلادنا تمر بأعظم نهضة إنشائية وخدمية ولكنها تقصر عن كونها نهضة حضارية، فحضارة الأوطان في كونها حضارة فكر ومهارة ونتاج ليس في كونها حقل تدريب ضخم مجاني للأجانب. قامت سنغافورة وهونج كونج وحتى الصين على الاستثمار الأجنبي، ولكنه الاستثمار الأجنبي الناجح. يجب علينا أن لا نضيع الفرصة التي تمر بها البلاد كمااعت في الطفرة الأولى، فنحن قادرين على الاستفادة من الاستثمار الأجنبي ومنعه من الفساد، وشاهد ذلك أرامكو. يجب أن تُخصص جهة مسئولة على وضع إستراتيجيات وآليات نقل الخبرات الأجنبية للكوادر الوطنية ومراقبة ذلك ومتابعته وعدم ترك المسألة مناطة بالمسئولين في القطاع العام أو الخاص الذين لا يسعون في الغالب إلا لتحقيق مكاسب آنية لا إستراتيجية، فإن مما سكت عنه أنه لو ذكرت أمثلة عن الاستثمار الأجنبي الفاسد في القطاع العام والخاص عندنا لأثرت غضب كثير من المسئولين في كلا القطاعين، فلا تكاد تخلو وزارة ولا شركة ضخمة -إلا قليل ممن رحم الله- من الاستثمار الأجنبي الفاسد قلّ أو كَثُر.
hamzaalsalem@gmail.com