في النصف الأول من القرن الماضي وفي جمهورياتنا العربية العتيدة بالذات كان بمقدور أي جنرال يستيقظ من النوم قبل زملائه أن يصبح رئيساً للجمهورية!! وهذا الأمر لا يكلف الجنرال شيئاً إذ كل ما عليه عندما ينهض صباحاً أن يرتدي بزته العسكرية المثقلة بالنياشين ويعتمر القبعة التي تشبه الدف ويتأكد من مسدسه أنه كامل الذخيرة ثم يضع على عينيه نظارة سوداء ثم يأمر سائقه الخاص أن يتوجه به للإذاعة لا إلى معسكره كالعادة وبالطبع حينما يقترب من البوابة سيؤدي له الحارس التحية العسكرية دون أن يستوقفه لأنه مجرد ضابط فحسب ثم يتجه رأساً إلى الأستوديو الذي يقبع فيه مذيع النشرة الإخبارية الأولى، ثم يخطف الميكرفون منه ويأخذ بالصهيل: أيها الشعب العزيز إليكم البيان رقم واحد. لقد قامت قواتكم المسلحة بواجبها التاريخي وذلك بإزالة الحكم البائد وتسليم الحكم إلى أبناء شعبنا الأبي لينعم من الآن فصاعداً بالحرية والكرامة والعيش الرغيد وإنقاذ فلسطيننا المغتصبة من أيدي الصهاينة الأوغاد ثم يقطع البيان مارش عسكري لتتالى من بعد ذلك البيانات النارية لقوات الشعب المسلحة مع أن القوات كلها لا تعلم شيئاً عن ذلك إلا باعتبار هذا الضابط هو القوات المسلحة (كلها)!!
أقول وبعد تتالي البيانات ومعرفة صوت الضابط من خلال زملائه كأن يكون مثلاً من ضباط القوات البرية إذ هنا تصيب الغيرة والحسد (!!) زميله الذي يعمل في وحدة الدبابات ثم يتجه الأخير أي ضابط الدبابات إلى مقر الإذاعة ويهدد زميله الانقلابي بالقصف إن لم يستلم فإذا استسلم قفز ضابط الدبابات إلى الميكرفون وأعلن عن انقلاب جديد ضد الانقلاب الأول وكما حصل مع ضابط الدبابات يحصل أيضاً مع ضابط سلاح الطيران الذي يرسل تهديداً لضابط الدبابات الذي خلع زميله ضابط البرية ويقول له إذا لم تستسلم وتسحب دباباتك سأقصفك بسلاح الجو، وهكذا تستمر المسرحية الكوميدية السوداء أمام عيون شعبنا العربي المسكين الذي لا ناقة له ولا جمل في هذه المهزلة المضحكة المبكية والتي يكون فيها البطل والمخرج والمؤلف هو الضابط الأخير الذي اعتلى كرسي أستوديو الإذاعة ليحوله إلى كرسي رئاسي (إلى الأبد). وهذا المشهد الدراماتيكي هو الذي أوصل شعوبنا العربية بالذات إلى هذه الحالة المتفجرة من الثورات على تلك الثورات العسكرية السابقة والتي أصبحت بموجبها شوارع عواصمنا العربية تقطر بالدم والدمار والعويل بينما الضابط الحاكم يقسم في قرارة نفسه أنه لن يسلم البلاد إلى الشعب إلا مثلما استملها منذ انقلابه العتيد حتى من حيث عدد السكان أي بمعنى آخر أن البلد الذي كان تعداد سكانه قبل الثورة العسكرية (10 ملايين) نسمة مثلاً فإن الحاكم العسكري سيسلمها إلى الشعب بنفس العدد حتى لو تضاعف العدد عدة مرات خلال حكمه المجيد وكذلك هو الحال بالنسبة للبنية التحتية. فيا للفظائع، ويا هول ما يصنعون.