لا شك أن كثرة الجامعات وتنوع تخصصاتها في أيّ بلد يدل على مدى التقدم العلمي الحاصل في هذا البلد، ومدى حرص قيادته على تعليم رعاياها العلوم والفنون المختلفة، وهذه هي الحقيقة التي تعيشها المملكة العربية السعودية منذ سنوات، حيث افتتحت عددٌ من الجامعات في معظم مناطق المملكة
لجميع التخصصات، الشرعية والأدبية والتجريبية، وقد تجاوز عددها خمساً وعشرين جامعة حكومية، فضلاً عن عددٍ من الجامعات والكليات الأهلية والخاصة.
وحتى تؤدي هذه الجامعات دورها الفاعل في الميدان العلمي والمعرفي، فقد خُصصت لها ميزانيات ضخمة من أجل توفير الكوادر العلمية المناسبة وتأمين المستلزمات الضرورية في مجال البحث العلمي، وفي كل ما يؤدي إلى تحقيق مهمتها ويحسن مخرجاتها.
إن تحقيق هذه الإنجازات وتوفير هذه الإمكانات هي مبشرات ترسم للمملكة مستقبلاً حافلاً بالتقدم العلمي والتطور المعرفي، والدخول في مجال التنافس العلمي مع الدول المتقدمة. فشكرًا لقيادة بلدنا المبارك وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين والنائب الثاني -وفقهم الله وسددهم، وحقق آمالهم وطموحاتهم-.. ولأجل أن تؤدي جامعاتنا المباركة دورها الفاعل وتحقق طموح ولاة الأمر وهذا الشعب المبارك أشير إلى بعض الوقفات علّها تضيف لبنةً في هذا البناء الشامخ الكبير.
الأولى: محور العملية البنائية
من المعلوم أن الهدف من إنشاء الجامعات وتأمين الخدمات التعليمية والكوادر العلمية فيها هو بناء الطالب البناء الإيجابي علميًا وفكريًا وأخلاقيًا واجتماعيًا، ومن ثم تخرجه عنصرًا فاعلاً إيجابيًا نافعًا لنفسه وأسرته ومجتمعه، وأما غير ذلك من الأعمال والجهود هي بمثابة أدوات ووسائل لتحقيق هذا الهدف المنشود، وللنظر في بعض ما يجري في الجامعات تشير إلى اتجاه آخر، فقد أصبحت الأولوية لديها في هيئة بنائها العمراني وفخامة أثاثها، وسعة مساحاتها، وتنوع الترفيه فيها، أما الاهتمام بالطالب فيأتي في دوائر ضيقة وأنشطة محدودة، فكثير من الجهد والمال لهذه الجامعات صُرف في بعض الوسائل وتشقيقاتها التي صرفت الجهد عن الهدف الأساس الذي هو الطالب. ولعل من الحكمة في سير المنظومة الجامعية وتوجيه الجهود نحو بناء الطالب بشكل أكثر فاعلية، وعلى سبيل المثال:
1- التركيز على البناء العلمي، وبخاصة في مجال التخصص، وإعطاؤه الأولوية الكبرى، إذ هو مفتاح سلامة المنتج لديه، وتمكينه -بإذن الله- من تطوير مستقبله في ذلك، وما جاءت كثرة الشكاوى من ضعف الطالب علميًا إلا لعدم التركيز، سواء في المرحلة الجامعية أو ما قبلها، لكن الحديث هنا عن الجامعة، وهذا -بلا شك- يلقي عبئًا خاصًا على إدارة الجامعة، وعمادة الكلية، ومجالسها العلمية، وعلى الأقسام العلمية، وعضو هيئة التدريس بشكل أخص وأدق، فهي مسؤولية عظيمة يجب استشعارها وتجديد هذا الشعور، فالطلاب والطالبات أبناؤنا وبناتنا، ورجال مستقبلنا، وعزنا، وعز بلادنا وأمتنا. أزعم هنا أننا بحاجة إلى إعادة النظر بجدية وإخلاص في أدائنا العلمي، وليعذرني الزملاء في ذلك.
2- أن يتم إدخاله في البرامج العلمية المتطورة حسب تخصصه، والتي تكسبه أكبر قدر من المعرفة بأقصر الأوقات وأقل الجهود، في ظل التطور التقني الهائل الذي يشهده العالم حاليًا، والدور الذي يؤديه الإنترنت في مجال العلم والمعرفة، حيث توجد مئات من المواقع العلمية المتخصصة، والعديد من مراكز البحوث والدراسات، التي يمكن أن يستفيد منها الطالب الجامعي، حين يكون ذلك جزءًا من البرامج التعليمية في الجامعات.
3- إشراكه في العملية التعليمية نفسها، فلا يبقى دوره متلقيًا وممتحنًا، فإذا جاز أن يكون هذا سليمًا في مراحل ما قبل الجامعة فلا يجوز أن يكون في الجامعة.
4- إيجاد بعض البرامج المساعدة لتكوينه، كالتدريبات البحثية والعملية بصورة أكثر فاعلية من الواقع.
5- تزويده بمستجدات المجتمع وبخاصة في مجال تخصصه، سواء كان في مجالات التقنية، أو ما جدّ من الكتب والأبحاث، أو ما يقام من الندوات أو غيرها.
6- إلزامه بحضور الفعاليات التي تهمه في مجال تخصصه، وجعل ذلك جزءًا من العملية التربوية والتعليمية.
7- إفادته عمليًا لأداء دوره الفاعل بعد تخرجه، وتبصيره بما يمكن أن يسهم فيه لا أن يبقى كالمتسول على أبواب الوظائف في القطاع الحكومي والخاص.
الثانية: قضايا الفكر والاجتماع
ثمّة قضايا ومشكلات تواجه المجتمع والشباب بخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه وسائل الانفتاح المطلق على كافة الثقافات والأفكار والعادات الموجودة في العالم، إضافة إلى أن نمط التفكير لدى الجيل الجديد يختلف كثيرًا عن الجيل الذي قبله، نتيجة تعدد مشاربه والاختلاط مع كل الأطياف عبر بوّابة الفضائيات والانترنت، حتى بدأ الشباب يؤسسون فيما بينهم صداقات إلكترونية رغم تباين لغاتهم واختلاف ثقافاتهم، فمثل هذه التحديات لابدّ من الوقوف عندها ودراستها، ووضع الآليات الناجعة لتفادي أخطارها.
وإذا لم يُستدرك تأسيس الشباب في الجامعات وسائر المؤسسات التعليمية على قواعد ثابتة من الإيمان بالله والثقة بالنفس، وتأمين حوائجهم المختلفة، عبر البرامج العلمية التوعوية العملية، فإنه قد يخرج جيل متمرد على كل القيم والأنظمة.
في هذا السياق يتأكد الوقوف أمام بعض الظواهر الفكرية والاجتماعية، ودراستها بعمق وتركيز، وتخصيص ورش عمل مكثفة لها بالتعاون مع الطلاب أنفسهم وتبادل الآراء والأفكار معهم، من خلال برامج علمية وتوجيهية مكثفة، وبالتالي إيجاد الآليات المناسبة للحدّ من ظهورها أو انتشارها في المجتمع، وهو إجراء وقائي ضروري تقع مسؤوليتها على كافة المؤسسات التربوية والتعليمية، وخاصة الجامعات.
الثالثة: البحث العلمي
في كل جامعة من جامعات المملكة عمادة للبحث العلمي، مهمتها نشر البحوث والدراسات العلمية المحكمة، في المجالات المختلفة، والتي من شأنها رفع مستوى الوعي العلمي لدى الطلاب والباحثين والمثقفين والمجتمع بعامة، ثم ترجمة ما يرد في هذه الدراسات من مقترحات ومشروعات علمية إلى حالة تنموية بشكل عملي، عبر المؤسسات المسؤولة والمخوّلة بذلك.
وبالرغم من وجود عدد من مراكز البحوث في الجامعات السعودية، إلا أن نشاطها العلمي المأمول لا يؤهلها للمستوى المنشود أو المقارن عالميًا، رغم توفر الميزانيات المالية الكبيرة، ووجود الإمكانات المادية والكوادر البشرية، والدعم المتميز، فهل هو دليل على ضعف الإرادة أو الإدارة أو ليس في الأولويات، الأمر الذي يفرض علينا إعادة النظر في حال مراكز البحوث العلمية وتفعيل دورها الحقيقي في بناء الفكر وتقدم المجتمع وقوة البلاد، إذ إن تقدم الأمم وتطورها يعتمد إلى حدٍّ كبير على مدى فاعلية مراكز البحوث العلمية في جامعاتها ومجتمعاتها مع قضاياها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
الرابعة: الإفادة من المتقاعدين
لا يخفى على ذي بصيرة أن الإنسان حين يبلغ سن التقاعد يكون قد اكتسب خبرات وتجارب كبيرة في تخصصه والمجال الذي كان يعمل فيه، وأن لديه معالم واضحة - في الغالب - لمواقع الضعف والقوة في ذلك الميدان والأسباب التي تؤدي إلى الحالتين وكيف التعامل معها.
واستفادت كثير من الدول المتقدمة تقنيًا وحياتيًا من المتقاعدين في جامعاتهم وهيئاتهم وجمعياتهم العلمية للإفادة من خبراتهم وتجاربهم العلمية في الشؤون العلمية وإدارة الأزمات والإشراف على المشروعات العملاقة، كما هي الحال في اليابان وغيرها. وللإفادة من أعضاء هيئة التدريس المتقاعدين في العلوم المختلفة بصورة عملية وفق برامج وآليات مدروسة يمكن الإشارة إلى بعضها:
1- الإفادة منهم في الاستشارات العلمية داخل الجامعة، فيصبحون مراجع علمية للطلاب والأساتذة والباحثين فيما يُشكَل عليهم مسائل علمية أو قضايا بحثية أو تقويمية.
2- الإفادة منهم في التدريس في الدراسات العليا، والإشراف على الرسائل الجامعية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
3- الإفادة منهم في الإشراف على المشروعات العلمية الكبيرة التي تخص الجامعة والبحث العلمي، ويكون لها آثار خارج الجامعة وخارج المملكة.
4- إقامة الندوات والمؤتمرات لهم حول القضايا العلمية الكبيرة بحضور طلاب الجامعات والباحثين والمعنيين، وإقامة ورش عمل خاصة بهذه الندوات، لتعميق الاستفادة من الجوانب العملية.
5- الاستعانة بهم في الطوارئ والنوازل، سواء على مستوى القضايا العلمية والاجتماعية والاقتصادية التي تمس واقع الناس واستقرارهم وأمنهم ومصالحهم المختلفة.
الخامسة: القضايا الوطنية
وهنا يمكن لكل جامعة أن تسهم في القضايا الوطنية المختلفة، اجتماعية وتربوية واقتصادية وغيرها، مثل:
1- البحوث العملية الميدانية الطلابية:
وهي عبارة عن إنشاء ورش عمل للبحوث العلمية وتطبيقها، يشترك فيها مع الأساتذة الطلاب وبعض شرائح المجتمع، عبر الجولات الميدانية للأماكن المختلفة داخل البلاد، سواء على مستوى المؤسسات والجمعيات وجميع المرافق العامة، أو على مستوى الأفراد والأسر، لأنها تُخرج الطلاب من واقع الأفكار والنظريات على صفحات الكتب والمناهج إلى واقع عملي مملوس، الأمر الذي يقوّي وشائج الصلة بين الطلاب ووطنهم قلبًا وقالبًا.
2- ترسيخ مبدأ الوطن والولاء له:
إن من أهم الواجبات الملقاة على عاتق إدارة الجامعات وهيئاتها التدريسية تعزيز علاقة الطلاب مع الجامعة باعتبارها مؤسسة أكاديمية وتعليمية وجميع العاملين فيها من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وكذلك تعزيز ارتباطهم بالوطن الذي ينتمون إليه، وترسيخ هذه المفاهيم في عقولهم وقلوبهم بالوسائل المتاحة، وفق آلية منهجية وبرامج عملية.
3- تشجيع المبادرات الطلابية:
إن مشاركة الطلاب والاستماع إلى مقترحاتهم من أجل وضع الخطط التنموية والتطويرية للوطن من أهم العوامل التي تقوّي أواصر الانتماء والولاء له، لأنها تولّد عندهم شعورًا بأن لهم دورًا في بناء وطنهم وإدارة مشروعاته التنموية التي تعود بالفائدة على الجميع، كما أنها تزرع الثقة في نفوسهم للقيام بواجباتهم الأخرى على أحسن وجه.
4- الإسهام في معالجة المشكلات الاجتماعية:
وأحسب أن هذه من أكبر مهام الجامعة، فالمجتمع يعيش جملة من المشكلات على مستوى الأفراد أو الأسر أو المجتمع بعامة، والجامعة تمثل بيت خبرة واسع تحمل في مكوناتها خبرات تراكمية كبيرة، وهم جزء من هذا المجتمع، فمن أعظم مهام الجامعة رعاية هذه الخبرات وتوظفيهم في طرح هذه المشكلات ووضع ورش عمل، وندوات، واستشارات وغيرها. كم يتحدث الناس عن مشكلات المخدرات، والإرهاب، والبطالة، والظواهر السلبية عند بعض الشباب، ومما يتوقف فيه المتأمل أن إسهام الجامعات لا زال متواضعًا، فحق المجتمع على كل جامعة كبير، بل أظن اليوم أن هذا الأمر أصبح مفروضًا، إذ إن في كل منطقة من بلادنا الحبيبة جامعة أو أكثر، أرجو أن تكون مؤهلة لهذه المشاركة المجتمعية.
السادسة: الإمكانات والميزات
تزخر بعض جامعاتنا العملاقة بإمكانات كبرى ومزايا عظمى، كالمباني الفخمة والواسعة، والمنشآت المتعددة، والأجهزة الكثيرة، ولكن الإفادة منها ليست على مستوى الطموح، ولذا فمما يذكر هنا التخطيط من استغلال هذه الإمكانات والميزات في المساء مثلاً، وفي الصيف، وفي التعاون مع الجهات الأخرى كإقامة الندوات وورش العمل فيها، وبهذا يستفاد منها وتقل التكاليف، ويشغل أبناؤنا وبناتنا للإفادة من إمكاناتنا، فيرتقى منتج الجامعة إلى مستوى المنافسة الحقة.
السابعة: القياس والتقويم
إن نجاح أيّ عمل مرهون بمدى وجود القياس والتقويم وبناء المستقبل، وقبله استشرافه عليه، ولذا فمن المهم التأكد من معالم القياس وشموليتها وإن كان ظهر على مستوى بعض المراكز والمؤسسات مؤشرات قياس، لكن الجميع أدرك عدم شموليتها ودقتها، ومن هنا فإن الجميع في هذا البلد المعطاء قلق من سلامة المنتج، ويتساءل عنه، ولعل في سيرة جامعاتنا المباركة وهي تدخل عصر المنافسة أن تنافس في مؤشرات القياس والتقويم، ولعل هيئة الاعتماد والتقويم في وزارة التعليم العالي تعين الجامعات في المؤشرات الحقيقية للتقويم السليم، وقوة المنتج، وسلامته ليعود بالنفع فعلاً على الوطن والمواطن.
تلك إشارات سريعة علّها أن تحرّك ساكنًا نحو مسيرة الجامعات المرجوة لنرى أثرًا إيجابيًا مع آثارها الإيجابية الكبرى.
- عضو مجلس الشورى