من قال إن عصر (المعجزات الإنسانية) قد آل إلى ذمة الماضي فقد جانب الصواب، وأدلل على ذلك بمعجزة الإنسان الياباني، الذي خرج عملاقاً من بين أنقاض الجراح في بلاده، بدءاً من منتصف القرن الماضي، ليعيد إصلاح ما أفسدته الحرب.. وما رتبته من ويلات، وليؤسس لحضارة تقنية وتجارية وصناعية عالية الصيت متمددة الأطراف أسهمت في تقليص شلله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونقلته إلى مصاف الأمم الحديثة منافساً ل(أعداء) الأمس و(شريكاً) لهم في صناعة الحضارة الإنسانية الحديثة!
والحديث عن معجزة الإنسان الياباني لا يستثنى (الإدارة) سياقاً وذكراً. فقد كان النموذج الإداري الياباني وما برح شغلاً شاغلاً لمنظري الإدارة وممارسيها، وخاصة في القارتين الأوروبية والأمريكية، ويقال إن التجربة اليابانية في الإدارة، تتكىء إلى (مرجعية) الخبرة الممزوجة بالموروث الثقافي، ولذا، أفلح اليابانيون عملياً فيما أخفق فيه غيرهم نظرياً، وذلك بمحاولة رصد هواجس وبواعث السلوك الإنساني في الإدارة وتأثيراتها إيجاباً أو سلباً على الإداري سواء ما ينشأ منه استجابة لفطرة الإنسان، أو الذي يطرأ امتثالاً لإرادة صاحب القرار.
وهنا، أزعم وبشيء من يقين أن اليابانيين هم أقل شعوب الدنيا (سفسطة) كلامية عن الإدارة، وبات من المألوف أن يوفد الأمريكيون وغيرهم من الشعوب.. بعوثاً منتظمة للتعرف على (أسرار التجربة اليابانية في الإدارة) والاستهداء بها. عبر الممارسة لا الكتب!
ويذكر في هذا السياق أن بعض دول الغرب، وأمريكا خاصة، أرسلت عمالاً من مصانعها إلى اليابان.. للتدريب على (مكنزم) الإدارة الصناعية.. كما يفهمها ويمارسها اليابانيون لا كما ينظرها الأمريكيون!
وكانت هذه الواقعة ملهمة للتعليق بل والنقد للنموذج الأمريكي التائه بين (أمواج) النظرية (وشواطئ) الحقيقة!
ومهما يكن من أمر، يظل اليابانيون رواداً على أكثر من صعيد.. ولأكثر من سبب، وإن ظلت تجربتهم تحمل شيئاً من غموض يستعصي على بعض أدوات التنظير والتحليل خارج اليابان!
والأهم من ذلك كله، في تقديري، أن اليابانيين دون سواهم من شعوب الأرض، يفعلون كثيراً.. ويقولون قليلاً.. ويدعون غيرهم (يسهر) جراء ذلك ويختصم.. في مناورات مقروءة ومسموعة.. لا تنتهي!!
أما بالنسبة لنا في هذه الركن من العالم.. فأرى أننا ما زلنا (مقلدين) في بعض توجهاتنا وممارساتنا الإدارية و(تقليديين) في البعض الآخر، مما يحملني على الظن بأننا لسنا ملزمين ضرورة لاستيراد أو (استنساخ) نماذج كاملة من التجارب الأمريكية أو اليابانية أو الصينية أو حتى (الفرعونية) في الإدارة، بحثاً عن صيغة نتعامل من خلالها مع شؤوننا التنموية، بل أعتقد أننا قادرون على (استنباط) نموذج أو أكثر خاص بنا، نستقي بعض أسسه من موروثنا الروحي والتاريخي والثقافي، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن (ندرس) النماذج الأخرى، دراسة المتأمل الواعي والناقد معاً (فنقتبس) الملائم منها، وندع ما عدا ذلك، والمهم، أولاً وأخيراً، أن نعمل عقولنا فيما نقرأ أو نسمع فهماً وتحليلاً واستنباطاً، بدلاً من أن (نتقوقع) فنحرم أنفسنا لذة الاكتشاف أو (ننبهر) بما يفعله الآخرون، فنسلم إرادتنا ل(مرجعية) قد تضلنا وتضرنا في آن!!