البيانات التي يصدرها بعض طلاب العلم على مواقع الإنترنت، ويبثونها عبر الشبكة العنكبوتية، ويوقعون عليها، والتي تشمل مناصحات، أو مطالب، أو ما إلى ذلك، وصفها سماحة مفتي عام المملكة - الشيخ - عبد العزيز آل الشيخ، لصحيفة المدينة - العدد - «17523»، بأنها:
«بيانات فضيحة، لا بيانات نصيحة..؛ لأن مَن يُرد أن ينصح، ويُبيّن الخطأ، أو يوضح المسائل، فإن هناك القنوات المعروفة، من خلالها نوصل نصائحنا إلى الجهة التي نريد؛ لأننا لا نبتغي سوى مرضاة الله بهذه المناصحة، أمّا خروج الانتقادات على الملأ ببيانات، فإنها تهتك الستر، وهذه ليست طريقة سوية».
ما تفضل به - سماحة الشيخ - عبد العزيز آل الشيخ، هو الكلام المتعين الذي قرره أئمة أهل السنة والجماعة في هذا الباب، من خلال الضوابط الشرعية التي جاءت بها السنة، وما كان عليها سلف هذه الأمة. وذلك: بنصيحة الحكام سرًا، وبالطريقة التي تُمْكِنُكَ من أدائها، إما مكاتبة، أو مشافهة، أو لفت من له صلة بالحاكم، كالعلماء، وأهل الحل والعقد، والذين هم بطانة الحاكم.
إن مناصحة ولي الأمر، لا تكون إلا بالطريقة الشرعية التي تحتاج إلى بعد نظر، وتقدير المصالح والمفاسد. ويُراعى فيها القول اللين، والحكمة، وحسن الأسلوب. إذ إن منهج أهل السنة والجماعة، وسط بين طائفتين، هما: الخوارج والمعتزلة، في طرف. والمرجئة والجبرية، في طرف آخر. فالفريق الأول، يوجب الخروج على ولي الأمر، ويشجع عليه، ولو حصل فيه من الفساد، وإراقة الدماء، وضياع مصالح المسلمين - العامة والخاصة -، ما الله به عليم. والفريق الآخر، يُسلّم لولي الأمر أن يقول، أو يفعل ما يشاء، فأفعاله - كلها - صواب، - ولذا - فهم لا ينصحونه، أو يُنكرون عليه. وكلا الفريقين بمعزل عن الصواب، وبمنأى عن صريح السنة والكتاب.
أما منهج أهل السنة والجماعة، فهو وجوب مناصحة ولي الأمر؛ لأن مناصحته أشد وأعظم من مناصحة غيره، كونه القائم على شؤون المسلمين، والراعي لمصالحهم، لكن هذه النصيحة لا تكون إلا بضوابط، كأن يُناصح ولاة الأمر سراً فيما صدر عنهم، أو من غيرهم من منكراتٍ، ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر، وفي مجامع الناس؛ لما ينجم عن ذلك - غالباً - من تأليب العامة، وإثارة الرعاع، وإشعال الفتن. وأما موقف علمائنا المعاصرين، في جمع قلوب الناس على ولاة أمرهم، والعمل على نشر المحبة بين الراعي والرعية، مع قيامهم بمناصحة الولاة سراً، فمسطر في دواوينهم. ومن ذلك ما كتبه - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في كتابه «حقوق الراعي والرعية»، وفيه: «ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر، ولا ينفع. ولكن الطريقة المتبعة عند السلف، النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به، حتى يوجه إلى الخير. وإنكار المنكر، يكون من دون ذكر الفاعل». وعندما سُئل - الشيخ - محمد بن عثيمين - رحمه الله - عن مناصحة ولاة الأمر جهرًا، قال: «وهذه المسألة من أخطر ما يكون على العامة، وعلى ولاة الأمور، وعلى الجميع؛ لأن الناس إذا شحنت قلوبهم على ولي الأمر، فسدوا، وصاروا يتمردون على أمره، ويخالفونه، ويرون الحسنة منه سيئة، وينشرون السيئات، ويخفون الحسنات، وإذا زيد على ذلك التقليل من شأن العلماء، فسد الدين - أيضاً -، فتمرد الناس على الأمراء اختلال للأمن، وتمرد الناس على العلماء فساد للشريعة».
ما ذكره العالمان الفاضلان - رحمهما الله -، هو الموافق للأثر النبوي، الذي رواه ابن أبي عاصم في السنة، عن عياض بن غنم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أراد أن ينصح لذي سلطان، فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه». هذا الحديث، وإن اختلف العلماء في صحته، إلا أن معناه صحيح. وهو ما أكده - الإمام النووي - في شرحه على صحيح مسلم: «وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيهم، وتذكيرهم برفق، ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس؛ لطاعتهم. قال الخطابي - رحمه الله -: ومن النصيحة لهم، الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف، أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح».
وإذا نظرت إلى مواقف علماء الدعوة النجدية، تجد آراءهم واضحة في هذا الباب. ومن ذلك: ما جاء في «الدرر السنية في الأجوبة النجدية»، رسالة - - للشيخ - محمد بن إبراهيم آل الشيخ، - والشيخ - محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ - سعد بن حمد بن عتيق، - والشيخ - عبد الله بن عبد العزيز العنقري، - والشيخ - عمر بن محمد بن سليم، - رحمهم الله جميعاً - من قولهم: وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي، والمخالفات التي لا توجب الكفر، والخروج من الإسلام، فالواجب فيها: مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، وإتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس.
واعتقاد، أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين».
إن الحرص على بذل النصح لولاة الأمر، بطريقة يُدفع بها الشر، ويُستجلب بها الخير، ويُغير بها المنكر، مع الحذر من سلوك طرق يذهب ضحيتها نفوس معصومة، وأموال مصونة، هو مقصد عظيم، تضافرت عليه الأدلة. كما أكد عليه دين الإسلام، بدرء المفاسد وجلب المصالح. ومن أبرز تلك المصالح: السعي إلى جمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، باعتباره أصلاً من أصول الدين. كما أن سبيل الإصلاح، العلم والعمل، ولا يكون ذلك إلا بالتصدر عن أهل العلم، والاقتداء بهم، والأخذ عنهم. أليس مناصحة المنصوح سرًا، ومشافهته خفية، خير من التشهير به، وكشف عورته، لاسيما وأن النقصان سمة الإنسان، ولا يكون الكمال إلا لواهبه، فما بالك إذا كان المنصوح هو ولي الأمر؟.