لا أريد توجيه اتهامات معلبة للمثقف السعودي، هكذا تعميماً، فيكفيهم الانتقادات من كل حدب وصوب. هذا إذا افترضنا قدرتنا على التعرف على المثقف الحقيقي، في بيئة يتواضع فيها الحراك الثقافي الفاعل حتى ليبدو أن الطيف الثقافي الأبرز تمثيلاً هو كتاب الرأي. مع ملاحظة أن البعض يطرح سؤالاً أكثر جدلية؛ هل كتاب الرأي وبالذات كتاب الزوايا الصحفية اليومية يمثلون الفكر الثقافي العميق لبلادنا أم أن اللهث خلف الهم الكتابي اليومي (الانطباعي) يوقعهم في تناقضات الأفكار وسرعة التعبير عن مواقف يومية تقلص إيمانهم وحفاظهم على قيم ثقافية حقيقية تشكل قيماً نهضوية حقيقية؟
أطرح هذه المقدمة وأنا أتابع بعض الآراء الواردة حول الانتخابات البلدية، حيث وجدت بعض أولئك الذين بشروا بها سابقاً ما لبثوا أن حملوا العصي يوجعونها تثريباً، رغم أنها لم تتجاوز سنة أولى تجربة.
يبدو لي أن جزءاً من فشل المثقف السعودي - أو بشكل أدق من أتيح له مساحة التعبير عبر الكتابة الصحفية عبر زاوية يومية أو غير يومية - هي الاستعجال وعدم التفريق بين الإيمان بمبدأ أو قيمة ثابتة وبين الانزلاق للتعبير عن المظاهر اليومية؛ ففي الانتخابات غاب عنهم التأكيد على أهمية الانتخاب كقيمة ثقافية تعبر عن المشاركة في الاختيار بعيداً عن بعض السلبيات التي نتجت عن المجالس البلدية نتيجة ضعف التجربة ونتيجة ضعف الصلاحيات ونتيجة التردد في ترسيخ التجربة وتعميمها.
يدعي الكاتب المثقف إيمانه بالديموقراطية وبأهمية المشاركة ثم نراه يعلن على الملأ بأنه لن يشارك في الانتخابات البلدية؛ لأن المجلس البلدي لم يساهم في حل (الحفرة) التي أمام منزله، وهو حين يعلن ذلك يحث الآخرين إما علانية أو بطريقة التأثير الرمزي على عدم المشاركة في الانتخابات، بل ويمنح حكماً غير ناضج بأن الانتخابات لا تصلح لمجتمعنا لمجرد أن أعضاء المجلس المنتخبين لم يحققوا طموحه الشخصي، سواء في أسمائهم أو أطيافهم أو فعلهم خلال أول تجربة للمجالس البلدية.
عتبي هنا ليس دفاعاً عن مجلس أو أشخاص بقدر ما هو سؤال عن غياب التفريق بين الدفاع عن قيمة ثقافية حقيقية تتمثل في مبدأ الانتخاب كوجه بارز للديموقراطية والمشاركة يجب ترسيخها وتشجيع ممارستها والتدرب عليها والصبر عليها لتنضج، وبين الانسياق خلف آراء انطباعية تفتقد الصبر على التجربة ودفعها للأمام كممارسة لا يمكن أن تنضج وتستوي خلال دورة واحدة أو حتى دورات قليلة.
مثل هذا التعجل في إصدار الأحكام بفشل التجارب الكبرى سيعيدنا للوراء وسيقضي على كل قيمة جديدة نحاول غرسها في مجتمعنا. عتبي يكمن في هذه النظرة القاصرة التي تنظر للقشور على حساب المتن، والتي تحكم على النصف الفارغ وتعمم النظرة السلبية لمجرد الشعور بتعثرنا في السنة الأولى.
أعود للانتخابات البلدية وأنظر لها من الجانب الإيجابي. هي تجربة ثرية يجب مواصلتها ونقلها نحو أفاق أرحب ويجب أن يكون للمثقف الحقيقي كلمة داعمة وإيجابية تجاهها. لا بأس في نقد المجالس وأدائها وآليات عملها، فهذه طبيعة القضايا الثقافية المجتمعية الكبرى، تحتاج للوقت وللتكرار والنقد والتقييم حتى ترسخ وتنضج. النقد الموضوعي الداعم، وليس ذلك الذي ينكص بالتجربة ويقصفها في مهدها.
الإيمان بقضية الانتخابات يتطلب تحمل نتائجها وأهمها تقبل اختيارات الناخبين والمشاركين فيها، والمثقف الحقيقي هو أول المعنيين بهذا الأمر. نحن أمام تجربة ثقافية كبرى يجب الدفع بها للأمام وتوسيع مداها لتصبح ثقافة تنتقل من المجالس البلدية إلى المجالس التشريعية والرقابية الأخرى. بل ولتصبح ثقافة ديموقراطية مجتمعية نمارسها في حياتنا اليومية بمختلف أوجهها.