قبل أسبوعين كنت ممن كرموا بدعوة لحضور محاضرة لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز في رحاب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي شهدت وتشهد، نشاطاً ثقافياً وعلمياً متألقاً، حول الأسس التي قام عليها الحكم السعودي في وطننا العزيز.
وفي نظري أن المحاضرة أتت في وقتها المناسب وبخاصة أن العقد الأخير شهد السهام يتوالى تسديدها صوب تلك الأسس، لا من جهات خارجية فحسب بل ومن أناس داخل الوطن. وكان من صدى ذلك الحضور أن انبعث في نفسي اشتياق إلى التحدث- وإن باختصار جداً - عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي الدعوة التي كان ظهورها المنعطف التاريخي الكبير في تاريخ وسط الجزيرة العربية المتمثل في نجد، بل وفي تاريخ المناطق التي أصبحت الآن تسمى - بعد توحيدها- المملكة العربية السعودية. ومن المعروف أن الدعوة انتصرت بتبني آل سعود لها، فتحقق لها من الانتشار ما تحقق، وأن أولئك الذين ناصروها قد ظفروا بتبنيهم لها، فتحقق لهم من النفوذ والتمكين ما تحقق.
ولقد كتب كثيرون عن الشيخ محمد ودعوته وعن الحكم السعودي، مناصراً لتلك الدعوة ومنتصراً بها. وكانت أول كتابة أكاديمية منفردة في هذا الصدد تلك التي نال بها الدكتوراه المستشرق الأمريكي، جورج رنتز، من جامعة كاليفورنيا في بيركلي سنة 1367هـ - 1948م، وعنوانها: محمد بن عبد الوهاب وبداية الأمبراطورية التوحيدية في جزيرة العرب. وقد اعتمد في كتابته على المصادر العربية المتوافرة حينذاك وكتبت في عهد الشيخ محمد أو بعده بقليل، كابن غنام وابن بشر. وجاءت كتابته وصفية لمجريات الأحداث التي دونتها تلك المصادر، لكنها تفتقر إلى التحليل العميق.
وبعد كتابة رنتز كتبت كتابات أكاديمية أخرى. ومن تلك الكتابات ما تناولت الجانب الديني في دعوة الشيخ محمد، ومنها ما تناولت الدولة السعودية الأولى التي ناصرت تلك الدعوة. فمن الكتابات التي تناولت الجانب الديني تلك التي نال بها الدكتوراه الباحث محمد عبد الباري من جامعة أكسفورد عام 1953م، وعنوانها: دراسة مقارنة لعقيدة الوهابيين الأوائل والحركات الإصلاحية المعاصرة لهم في الهند الإسلامية. ومن الكتابات التي تناولت الدولة السعودية الأولى تلك التي نال بها الدكتوراه أخي وأستاذي محمد الشفعي من جامعة ليدز عام 1967م، وعنوانها: الدولة السعودية الأولى من الجانبين الإداري والعسكري.
وكنت قد ابتعثت من جامعة الملك سعود إلى بريطانيا للدراسة العليا، ولقيت قبولاً من جامعة لندن وجامعة أدنبرا فنصحني أستاذي الجليل، معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، أن أذهب إلى أدنبرا. وكانت نصيحته نعم النصيحة. وكنت مبتعثاً ليكون موضوع دراستي العرب في شرق إفريقيا. لكن المشرف الرئيس على دراستي في أدنبرا البروفيسور مونتجمري وات، أشار علي أن يكون موضوع دراستي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فاستحسنت مشورته، ووافقت جامعة الملك سعود مشكورة على ذلك. وكان أن كتبت رسالتي، التي نلت بها الدكتوراه من جامعة أدنبرا عام 1972م وعنوانها: محمد بن عبد الوهاب: الرجل وأعماله. وكانت تلك الرسالة أول كتابة أكاديمية تجمع بين دراسة أوضاع وسط الجزيرة العربية قبيل ظهور الشيخ محمد بدعوته، تاريخياً، واجتماعياً واقتصادياً، وسياسياً وعلمياً ودينياً، ودراسة حياته، أسرياً ونشأة، وتعلماً، ثم دعوة ومكانة في الدولة السعودية التي ناصرته وانتصرت بتبنيها لدعوته، وتحليلاً لما كتبه من كتب ورسائل، أسلوباً مختلفاً وفق الموضوع المكتوب فيه، ووفق فهم من وجهت إليه ومكانته، واختتاماً بعرض آرائه هو وأنصاره في المسائل الدينية، وبخاصة ما يتعلق بالتوحيد، من جهة وآراء معارضيهم من جهة أخرى.
أما النتيجة، التي توصلت إليها -من خلال مقارنة المصادر المختلفة، بما فيها الشعر العامي (النبطي) - أن الحالة الدينية، التي كانت سائدة في نجد، عند ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم تكن بالصورة القاتمة التي أظهرتها بها بعض المصادر المؤيدة لتلك الدعوة، أو المتحمسة جداً لها. بل إنها كانت غير متفقة إطلاقاً مع قول من قال عن أهل نجد حينذاك: إنهم كانوا قد خلعوا ربقة الإسلام والدين، وإنها بعيدة كل البعد عن الادعاء القائل بأن كل أثر للإسلام في المنطقة كان قد اختفى، وأن قراءة القرآن والصلاة والزكاة والحج كلها أمور قد نسيت من قبل سكانها على أن تلك الحالة - من ناحية أخرى - لم تكن مستقيمة كما قد يستنتج من بعض المصادر الشعرية. لقد كان هناك جهلة يمارسون أعمالاً يمكن وصفها بأنها شركية، لكن عدد أولئك كان قليلاً جداً إذا قورن بمجموع السكان. وكان هناك كثير من البادية، الذين لا يقومون بأركان الإسلام كالصلاة والصوم والحج نتيجة جهلهم بها. وكان موقف علماء المنطقة من ذلك الوضع موقفاً غير مكترث فيما يبدو. وهذا الموقف يشبه - في بعض جوانبه - ما ذكره العياشي، الرحالة المغربي، الذي زار المدينة المنورة في القرن الحادي عشر الهجري، واستغرب من رؤية جماعات من البدو في المسجد النبوي نفسه لم يكونوا يعرفون كيف تؤدى الصلاة، فيؤدون بعض الركعات دون سجود، أو يزيدون في عدد الركعات، وأن العلماء يشاهدون ذلك، فيكتفون بالابتسام دون أن يحاولوا إرشادهم. على أن أكثر سكان حاضرة نجد كانوا ملتزمين بأحكام الشريعة، وقائمين بأركان الدين وما يأمر به من واجبات وسنن.
وعلى أي حال فإن من الواضح أن منطقة نجد كانت في حاجة إلى حركة إصلاحية توضح للجهال ما كان خافياً عليهم، وتقضي على ما كان من شأنه أن يخل بعقائد الناس، وتلزم من لم يكونوا يؤدون أركان الإسلام على أدائها. وكانت المنطقة مكاناً مناسباً لنجاح مثل هذه الحركة. فجوانب الصوفية المذمومة لم تكن ذات جذور فيها، كما هو الوضع بالنسبة لكثير من الأقطار الإسلامية في ذلك الزمن. وكانت خالية من المذاهب غير السنية. وكثير من باديتها لم يكن لديهم آراء عن الدين، ولذلك كان من المحتمل ألا تكون مجابهتهم صلبة لأي دعوة دينية، وبخاصة إذا كان الجهاد من أهدافها، والقتال سبيلاً من سبل نشرها.
ومن ناحية أخرى، كان هناك صراع على السلطة داخل البلدان النجدية، وكان الاغتيال من طرق الوصول إلى تلك السلطة. ولذلك كان الخوف من الثأر يملي، أحياناً على الحاكم.. الأمير.. اتخاذ إجراءات تعسفية. ولقد ذكر ابن بشر - وهو من المتحمسين جداً لدعوة الشيخ محمد وأنصارها من آل سعود - أن رؤساء البلدان (النجدية) لا يعرفون إلا ظلم الرعايا والجور. وكان قد سبقه إلى وصف أولئك الأمراء بما وصفهم به الشاعر جبر بن سيار، إذ قال:
شيوخ إلى فكرت فيها لكنها
ثعالب طرف تفسد الملك جايره
تركبوا ظلم الرعايا وطبعهم
يدلك عليه إن مات تشج بصايره
وإذا كانت نجد حينذاك في حاجة إلى حركة إصلاح سياسية تجمع شتات إماراتها تحت راية واحدة ليسود الأمن والاستقرار فيها فإنها كانت، أيضاً، أرضاً قابلة لنجاح أي حركة من هذا النوع فقد كانت بعيدة عن متناول مراكز السلطة القوية التابعة للدولة العثمانية وكان بإمكان الحركة أن تحرز نجاحاً أولياً - على الأقل - قبل أن تلفت إليها الأنظار الخارجية. وكون إماراتها مختلفة متفككة -وإن بدا عامل ضعف لأول وهلة - قد يكون من بين عوامل النجاح للحركة.
فعندما يفشل قائدها في مكان معين فإن فرصة نجاحه في مكان آخر غير بعيد عنه أمر كبير الاحتمال. ذلك أن خلاف صاحب المكان الثاني مع صاحب المكان الأول قد يدفعه إلى الترحيب بمن لم ينجح عند ذلك الأول. وما حدث للشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته فيه دليل على صحة ذلك.