لا أستغرب ردود الفعل العنيفة إذا طرح أحد ما رأياً مخالفاً للرأي السائد، فإرث الشقاق هو نسق قديم في ثقافة الرأي والرأي الآخر في تاريخ المسلمين، ولم يسلم علماء كبار من ذلك، فما بالك برأي فكري يطرحه صاحب رأي، ويُذكر أن الإمام الشافعي ألّف كتاباً يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون المصريون بسبب الكتاب، وأخذوا يحاربون الشافعي، وتعرَّض للشتم القبيح المنكَر من عوامهم، والدعاء عليه من علمائهم. يقول الكندي: لما دخل الشافعي مصر.
ويذكر التاريخ أيضاً أن ابن المنكدر كان يصيح خلفه: «دخلتَ هذه البلدة وأمرُنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك» (القضاة للكندي ص 428). واصطدم كذلك بأحد تلاميذ مالك المقربين ممن أسهم بنشر مذهبه في مصر، وهو أشهب بن عبد العزيز. وكان أشهب يدعو في سجوده بالموت على الإمام الشافعي. وروى ابن عساكر عن محمد بن عبد الله بن عبدِ الْحَكَمِ أَنَّ أَشْهَبَ بْنَ عبد العزيز يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ أَمِتْ الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَهُ اِنْدَرَسَ مَذْهَبُ مَالِكٍِ». وروى ذلك ابن مندة عن الربيع أنه رأى أشهب يقول ذلك في سجوده. ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله - رحمه الله -، وعمره 54 عاماً فقط، ودُفن بمصر، وهذا دليل على أن خلاف العلماء لم يكن رحمة، بل نقمة سالت على أثرها الدماء.
هاجم مؤخراً الشيخ يوسف القرضاوي السلفيين في مصر، وأشار إلى أن غياب دور الأزهر بمنهجه الوسطي هو الذي أتاح للتيار السلفي المتشدد أن يقوى ويتسع ويؤثر في جمهور من الناس، وأضاف أنهم - أي السلفيين - يتأثرون بالفكر الحرفيّ الذي لا يحتاج إلى تأمّل عميق، وأطلق عليهم (الظاهرية الجُدُد)، بسبب اتجاههم في رفض (تعليل النص) و(رفض القياس) و(أخذ النصوص على ظواهرها دون النظر في مقاصدها)، وإن لم يكن لهم علم الظاهرية حسب قوله الذي يتمثل في موسوعيّة ابن حزم، وغزارة معرفته بالأحاديث، وأقوال السلف، وتاريخ الملل والنحل.
كذلك واجه الإمام الطبري أنواعاً شتى من الإقصاء فيما يُعرف بالخلاف الذي حدث في بغداد بين الحنابلة وبين المؤرخ المفسر ابن جرير الطبري (ت 310 هجرية). والخبر كما رواه ابن الأثير هو: وإنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه، فتبعهم غيرهم، ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وذكر المؤرخ ابن الجوزي أن الحنابلة منعت دفن الطبري نهاراً.
وواجه أحمد بن حنبل محنة في عقيدته عندما تمسك بأن القرآن الكريم غير مخلوق، وقد أمر المأمون بإحضاره مكبلا في الأغلال، هو ورفيقه في المحنة محمد بن نوح، وتوفي محمد بن نوح وهو في طريقه إلى المأمون، وتوعده الخليفة بالتعذيب والقتل إن لم يجبه إلى القول بخلْق القرآن، وكان أثر ذلك انشقاق غير مسبوق بين المسلمين، حدثت بسببه تحولات، أدت في نهاية الأمر إلى أفول حضارة المسلمين.
كما واجه الشيخ الكلباني والشيخ أحمد الغامدي الإقصاء من نخبة علماء الدين المجتهدين، عندما اجتهدا في جواز الغناء وكشف وجه المرأة، وكان الشيخ الكلباني قد كتب مقالاً عن فوبيا المرأة، عندما كتب عن «(الغيورين) الذين يريدون أن يعيدوا الأمر إلى سابق عهده، توجساً وخوفاً من مصيبة متوقعة، فعاد وأد البنات، لكنه اليوم ليس دفناً في التراب، وإنما دفن لقيمتها، ولحريتها، دفن لإنسانيتها، ولكرامتها، والمصيبة أنه يصبغ اليوم بصبغة دينية، ويتدثر بلباس شرعي!». يظهر في ذلك أن الاختلاف بين العلماء لم يكن في واقع الأمر رحمة على الناس، فقد كان سبباً للفرقة والشقاق، والأمثلة على ذلك لا حصر لها، لذلك يحتاج الخطاب الديني إلى علماء يفتحون أبواب جديده للتسامح في الدين، وأن يكون الاختلاف في الرأي أمر محمود، وأن لا يكون سبباً للبغضاء والكراهية كما هو حال المسلمين في العصر الحاضر، وأن يحسنوا الظن بالمجتهدين في الشرع، وألا يبخسوهم حقهم العلمي في الاجتهاد، وإلا أصابنا داء الجمود المزمن، متحجرين في عقولنا، عاجزين عن تجاوز سجننا التاريخي خلف قضبان الرأي الواحد.