لقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين، منها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور، وهذه لا حديث عنها باعتبارها واجباً لازماً على المسلم. ومن المنابع ما هو ذو طابع تطوعي بحت مثل الصدقات التطوعية والوقف. والمسلم حين يتنازل عن حُرّ ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع، ويتحرر به من ضيق الفردية والأنانية متجاوزاً الأنا إلى الكل، شاملاً المجتمع بخيرية الفرد، وبانياً الجسد الواحد بكرم العضو، وهذا التفاعل تحقيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه البخاري). ويُعدّ الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبيراً وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره، وذلك بعدم محدوديته واتساع آفاق مجالاته، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه، وكل هذا كفل للمجتمع المسلم التراحم والتواد بين أفراده على مر العصور بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال الأربعة عشر قرناً الماضية؛ فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته، وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية، ويزيد إحساسه بقضايا إخوانه المسلمين، ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية. وينظر الكثير إلى نظام الوقف باعتباره أحد الأسس المهمة للنهضة الإسلامية الشاملة بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية؛ لذا فقد اتجهت الأنظار إليه مرة أخرى بعد تغيب دوره العظيم لعقود طويلة باعتباره البذرة الصحيحة لبداية النهضة الشاملة لجميع مجالات الحياة في الأمة المسلمة. ولا شك أن البداية الصحيحة لعودة الوقف إلى مكانه الفاعل في دولاب العجلة التنموية الشاملة هي إثارة الشعور واستنهاض الهمم نحو تجلية حقيقته والدور الذي قام به سابقاً. وفي نظرة سريعة وعاجلة نرى أن أغلب الأسباب في تعطل الأوقاف أنها تعتمد في إدارتها على ناظر واحد، وفي بعض الأحايين يذكر في الوصية الصالح من الذرية. وبما أن الدوام لله - جل وعلا - فقد تتعطل هذه الأوقاف بمجرد مرض أو موت الناظر دون أن يتمكن من أن يوصي لمن بعده؛ وهذا سبب تعطل الكثير من الأوقاف. ولقد مَنّ الله على بلادنا - ولله الحمد - بجمعيات خيرية كثيرة، تقوم بجهدها المؤسسي، وليس الفردي كما هو حاصل عند الكثير؛ فالجمعيات لديها إدارات لشؤون الأوقاف، تقوم من خلالها بتنفيذ وصايا الموقِف أولاً، ثم ما زاد عن ذلك يُصرف على أوجه البر المتعددة، دون أن تأخذ نسبة على نظارتها، ثم تقوم بعد ذلك بتقديم تقرير كامل عن الوقف للواقِف أو للمسؤول عنه من بعده. هذا الجهد المؤسسي ادعى للاستمرار - بإذن الله - من الجهود الفردية.
المدير العام لجمعية البر الخيرية بالبكيرية