لم أكن أتصور دعوى (الجامعة التي لا تغيب عنها الشمس)، وإن كان ثمة محفزات لاستساغة مثل هذه الدعوى غير المتصورة فإنما هي في سمة الخطاب المستفيض بالمبالغة، وفي سمة الشعر العربي المترعة مدائحه بمثل هذه المستحيلات، على شاكلة (إذا بلغ الرضيع...) (وأخفت أهل
الشرك...)، هكذا كان تصوري من قبل لمثل هذه الإطلاقات الباذخة في المبالغة، ولا أحسبني وحدي في هذا التصور، بيد أني ارعويت بعدما استبنت الخبر بالخُبْر والسماع بالتصور، وعشت في تلك الأجواء المفعمة بكل جميل، و»ما راء كمن سمعا»، وحين عرفت المقاصد من تلك المقولة تأكد لي أن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة فعلاً لا تغيب عنها الشمس، وتلك حقيقة لا مراء فيها، ولك أن تتصور ثلاثين ألف خريج تلقوا التعليم فيها حين أتوها رجالاً وركباناً من مأتي دولة. ودعك من تباين أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، وهؤلاء الخريجون بعد عودتهم إلى ديارهم انتشروا في آفاق المعمورة دعاة وخطباء ومعلمين ومسؤولين في مختلف القطاعات الحكومية والأهلية، يشيعون بالقول والفعل مذهباً سلفياً وسطياً لا عوج فيه؛ لأنه ينطلق من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن صحيح السنة، وهم بما هم عليه من تأصيل معرفي ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وكل خريج يحتل ولو مفحص قطاة مضيئاً فوق المعمورة، هذه البقعة المضيئة تنتمي لهذه الجامعة، وحينئذ فالشمس بهذا التأويل الصحيح لا تغيب عن الجامعة.
والمملكة العربية السعودية بما حباها الله من نِعَم رعت حق الله فيها، فطهَّرت بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، وهيأت الحرمين بالتوسعات والخدمات للحجاج والمعتمرين والزائرين، وأسمعت كلام الله بالطباعة وترجمة المعاني، وبلغت به مشارق الأرض ومغاربها بمختلف اللغات.
وتلك بعض مفاخر المملكة؛ فمفاخرها كبيرة وكثيرة، ولكننا نكاد بالإلف نتقالُّها، والجامعة بوصفها بعض مكرمات البلاد بهذه الإمكانيات، وبفضل فريق العمل الذي يمثل رأس الحربة فيه معالي مديرها، استطاعت أن تعيش حضوراً متعدد الجوانب، حتى لقد تبوأت مكانتها العلمية والعالمية والدعوية، كما أنها واءمت بين الحضور الإعلامي والمعرفي بوصفها مؤسسة تربوية وتعليمية ومعقلاً من معاقل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنها تضطلع بصناعة الإنسان على عين المقاصد الشرعية التي تحفظ التوازن بين مطالب الحياة الدنيا والآخرة. ولقد كنتُ ولما أزل على وعي بتجاوزاتها المحسوبة التي مكنتها من شد الانتباه والتذكير بالدور الدعوي والإصلاحي الذي تضطلع به المملكة؛ فلم تكن مجرد جامعة للتعليم والتخريج، ولكنها تخطت تلك المهمة الرئيسة إلى مهمات لا تقل أهمية عن الرسالة الرئيسة، وتخطي الجامعة لأروقتها وتمكين العامة من الاستفادة من إسهاماتها الأدبية والثقافية دليل وعي برسالة الجامعات، وذلك ما استطاعت تحقيقه في ظل معايشة العالم للتدفق الإعلامي والانفجار المعرفي وثورة الاتصالات التي كادت تخلط الأوراق وتفوت فرصة المحافظة على الخصوصيات ومحققات الهوية. وفي ظل هذه الأجواء شرفت بدعوات كريمات لحضور عدد من الفعاليات المتلاحقة من معالي الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلاء مدير الجامعة، وفعاليات الجامعة من الوزن الثقيل، ولربما كانت الدعوى الموسمية تلك التي أحياها رجل الدولة وأمير المؤرخين وعضد الأدباء والمفكرين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، ولاسيما أن هذا اللقاء جمع فأوعى؛ حيث استقطب لفيفاً من أصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب الفضيلة العلماء وطائفة من المفكرين والأدباء والإعلاميين. ومعتصر المختصر الذي ألقاه سموه عن (الأسس التاريخية والفكرية للدولة السعودية) فتح شهية الحضور لمزيد من الإضافات والتهميشات والاستفسارات، ولكن سيف الوقف المصلت فوَّت على الحضور أشياء كثيرة، ولاسيما أن سموه اختار القراءة على الارتجال، وهو عائق أشرت إليه عندما شرفت بالحديث مع سموه، فبلاغة الأمير في انطلاقته على سجيته.
واللقاء لا يقوَّم من خلال الكلمة المقتضبة التي ألقاها سموه واستغرقت أحدى عشرة دقيقة، ولكن التقويم يمتد ليشمل ما بين وصول سموه إلى طيبة الطيبة ومبارحته إياها، فبرنامج سموه حافل بالمهمات واللقاءات والتوجيهات التي كان وراء ترتيبها أمير المدينة المنورة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد بكل ما هو عليه من أريحية وشعور بأهمية اللقاء. وذلك فضلاً عن المداخلات ورد سموه على مجمل الاستفسارات أثناء المحاضرة وفي سائر اللقاءات التي حظيت بها جهات عدة. وأيا ما كان الأمر فإن هذا اللقاء الثري تمخض عن أشياء تستدعيها الظروف المعاشة، وما يجتاح عالمنا المأزوم من فتن طاحنة أكلت الرطب واليابس، وأهلكت الحرث والنسل.
فسموه كان واعياً للمرحلة مدركاً لتداعياتها ومتطلباتها، وأحاديثه المقروءة والمرتجلة تحاول تثبيت أفئدة الأمة الوجلة من تلك الريح التي فيها صِرٌّ.
وعلى ضوء تداعيات العنوان والمرحلة ألمح سموه إلى مسيرة الدولة وأبعادها السياسية التي كان لها الفضل في إرساء قواعد الحكم وصمودها أمام الأعاصير الهوج، فهي كما يقول سموه: لم تؤسَّس على العصبية ولا على القبلية ولا على الإقليمية، وإنما أُسِّست على التقوى ومحققات الدين والمدنية على حد سواء.
وإن كان ثمة تصديات لها في أدوارها الثلاثة فإنما هو بسبب انتشارها وتأثيرها، ومن باب التشويه والتخويف سُمِّيت بالدولة الوهابية. لقد افترى المغرضون عليها وعلى المصلح الكذب، فما هي إلا دولة سلفية مستنيرة ودعوة سلفية تحترم التعددية وتناصر المذاهب وتجنح إلى السلام والدفع بالتي هي أحسن والمجادلة بالحق والصدق والندية وتكافؤ الفرص، وابن عبدالوهاب لم يأتِ بجديد؛ فهو يحترم المذاهب الأربعة، ويتبنى آراء سلف الأمة. ولقد دعا سموه الخصوم إلى قراءة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعرضها على الكتاب والسنة لاستبانة الحق.
ومما يُحسب لسموه إشارته إلى إسهامات الأمة في قيام هذا الكيان ورسوخه، وذلك حين قال:
ِ»لا يوجد أسرة في المملكة إلا ولها إسهام في تكوين هذا الكيان والحفاظ عليه». وهذا إلى جانب كونه اعترافاً بالفضل لذويه - ولا يعرف الفضل لذويه إلا أهل الفضل - فهو تنبيه لشباب الأمة الذين تجتالهم الدعوات الهدامة، وحث لهم على مواصلة الإسهامات التي بدأها آباؤهم وأجدادهم، فالمحافظة على هذا الكيان المستقيم على أمر الله إسعاد للأموات من الآباء والأجداد؛ فهم الذين بنوه، وواجب أبنائهم وأحفادهم المحافظة عليه؛ ليتوفروا على العزة والكرامة ووحدة الصف والفكر والهدف.
لقد كانت تلك الاحتفالية من المناشط الاستثنائية التي ظفرت بها الجامعة، فالحضور اللافت للنظر في كمه وكيفه اكتظت به كمًّا ثلاث قاعات، وكيفاً تنوعت أطيافه بلفيف من الأمراء والعلماء والوزراء الأدباء والمفكرين والإعلاميين والمداخلات التي استهلها إماما وخطيبا الحرمين الشريفين فضيلة الشيخين علي الحذيفي وسعود الشريم. كل ذلك أضفى على اللقاء فيما لم تتهيأ لأي لقاء سلف، وأحاديث سموه المرتجلة في سائر اللقاءات الهامشية وتدفق الأسئلة والاستفسارات أعطت هذا اللقاء هوامش تكاد تنازع صلب اللقاء أهمية.
ما نوده من الجامعة وقد ظفرت بمثل هذا اللقاء أن توثق كافة مفرداته والحصول على نص الحاضرة التي وعد بها مدير الجامعة وتحويل ذلك كله إلى إصدار يسهم في توسيع مساحة الاستفادة منه.
فالشباب بأمسّ الحاجة إلى مَنْ يُذكِّرهم بتاريخ بلادهم والثمن الباهظ الذي أنفقه الآباء والأجداد بقيادة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وأنجزوا هذا المشروع الحضاري بوحدته الإقليمية والفكرية والدينية فتجربة الملك عبدالعزيز جديرة بأن يعيها شباب الأمة ليعرفوا المواطنة على وجهها، ولاسيما أن إحدى المداخلات مع سموه طلبت السعي لتحرير مفهوم المواطنة.