لم أسمع في حياتي تعليقاً على انفكاك وزير الخارجية الليبي موسى كوسا عن نظام القذافي أكثر كشفاً لواقع الحال من تعليق الناطق باسم الحكومة الليبية، الذي قال محاولاً تبرير هذه الفضيحة ثقيلة العيار: إنّ ليبيا لا تعتمد على أشخاص!. قلت في سري: هذا والله صحيح .
ليبيا لا تعتمد على أشخاص بل تعتمد على شخص واحد، لا يقبل أن يكون إلى جانبه أحد، أي أحد.
هذا « القائد «، الذي ألقى خطبة قال فيها دون مزاح: «أنا ليس عندي مسؤولية. لو كنت مسؤولاً لرميت ورقة استقالتي في وجوهكم»، لم يسمح أن يظهر إلى جانبه خلال الأزمة القاتلة التي تتواصل منذ شهر ونيف، أي مسؤول ليبي، كأنه لا يوجد في ليبيا رئيس وزراء أو وزراء أو رجال حكم وسلطة من أي نوع، أو كأنّ الدولة لم توزع سلطاتها، لأنها بكل بساطة بلا سلطات، بل هي مجموعة مؤسسات وأجهزة يديرها جميعها « الأخ العقيد «. ولولا أنّ نائب وزير الخارجية هناك تحدث خلال مؤتمرين صحفيين عن بعض الأوضاع والأحداث، لخال المرء أنه لا يوجد حقاً في ليبيا أي أشخاص غير شخص فرد واحد وحيد هو القذافي، الذي ليست لديه أية مسؤولية غير أن يأخذ مسؤوليات وصلاحيات جميع مواطنيه: رجالاً ونساء وشيباً وشباناً وأطفالاً، وأن يجعلهم ملتزمين بقيادته مسؤولين أمامه وحده.
بهذا الوضع، من المفهوم أن لا يعزو الناطق باسم ليبيا أية أهمية لانفكاك مسؤولين كبار في الدولة والسلطة عن النظام، حتى إن كان بينهم أشخاص مثل أحمد قذاف الدم، ابن عم العقيد ورجل المهام الخاصة المقرب جداً منه، المختص بشؤون أمنية حساسة لا يؤتمن غيره عليها، ومثل بعض أبناء القذافي، الذين اختفوا فجأة عن الشاشة بعد أن كانوا في مقدمة المواجهة السياسية والعسكرية الدائرة، كأنّ الأرض انشقت وابتلعتهم، ومثل وزيري الخارجية والعدل السابقين، واثنين من أعضاء مجلس قيادة الثورة عام 1969، هما عبد المنعم الهوني وعبد الفتاح يونس، وعشرات الضباط الكبار من مختلف أفرع القوات المسلحة والكتائب الأمنية ورجال المخابرات، ووحدات عسكرية كاملة ومهمة تضم مطارات وقواعد بحرية ومعسكرات مدفعية ومدرّعات، وكتائب صواريخ، وقوات كبيرة من الوحدات الخاصة عالية التدريب والتسليح.
ومن المفهوم أيضاً، أن يتظاهر النظام بتجاوز محنة حقيقية هي انفصال منطقة الشرق الليبي عن سلطته، وتشكيل كيان مستقل صارت له علاقات عربية ودولية، ينخرط الآن في تأسيس دولة تمتلك كل ما هو ضروري من قوة لنشر سلطتها على كامل البلاد، تتمتع الآن بشرعية مقبولة دولياً، من الأمم المتحدة والدول الكبرى، وبنظام يحظى بتأييد شعبي جدي في كل مكان من «الجماهيرية»، بدلالة المعارك الدائرة منذ قيام التمرد في مدن الغرب الليبي، حيث لا توجد هيئات الحكومة البديلة، وإما يوجد شعب مخلص لها يدافع عن مدنه ونفسه بالسلاح، دون أن تلين له قناة أو يتراجع، رغم الحصار والتضييق الحياتي والقتل العشوائي الذي يتعرّض له على يد كتائب أمن القذافي المدججة بالسلاح والوحشية.
أخيراً، فإنّ القذافي لا يستسلم للواقع أو يقر به، مع أنه يخوض معركة بلا أفق يستحيل أن ينجح فيها، ليس فقط بسبب انفصال القسم الأكبر من شعبه عنه، بل لأنه يواجه فيها العالم بأسره أيضاً، ليس بالكلام وإنما بالقوة، وهو فيها ضعيف لا تنفعه عنترياته أو بقايا الأسلحة التي بحوزته، في حين تقف أمامه ترسانات من أحدث طراز، تستخدمها ضده دول تطالبه بالرحيل، تستطيع تحقيق ما تطالبه به ومصممة عليه، بوسعها في أي وقت تدمير ما بقي لديه من قوات وقصف مخابئه وملاجئه في باب العزيزية، وإمداد خصومه الداخليين بما هو ضروري من عتاد لقلب ميزان القوى لصالحهم، فمعركته خاسرة سلفاً، لا يسوغ استمرارها غير استهتاره بحياة وأمن وسلامة وطنه وشعبه، وحبه السلطة التي يقول إنه لا يملكها، مع أنه، كما سبق القول، الوحيد في ليبيا الذي يمارسها، بينما يفتقر غيره إلى أي نوع أو نصيب منها، إلاّ إذا قرر هو منحه بعضها، لبعض الوقت أو في بعض الشؤون.
يصل بنا ما تقدم إلى واقعة بالغة الخطورة، تتجلّى في أنّ الرجل حاكم يضع كرسيه فوق أمن ووجود شعبه ووطنه، بلور منظومة دعائية تدعمها أموال طائلة ووسائل ترغيب وترهيب مما هو ضروري لبقائه في كرسي ترفض أغلبية شعبه وجوده فيه، ليواصل معركة لا نتيجة لها غير تدمير بلاده وشعبه وإزهاق أرواح مواطنيه. بذلك يكون القذافي أسوأ من ذلك الحاكم الذي قال ذات يوم، بينما المغول على حدود الخلافة: بغداد تكفيني، بما أنه هو يقول: كرسي يكفيني، وليهلك شعب ليبيا ولتدمر هي كوطن.
والغريب من ذلك أنه كان يدّعي قبل التمرد أنه يريد إصلاح أحوال وطنه، ومنح الشعب حريته. وحين طالبه شعبه بتنفيذ وعده، واجهه بالمدافع والصواريخ والطائرات، وانقض عليه يعمل سيف القتل فيه، مما أوصل ليبيا إلى الحال الراهنة، التي تحوّلت الأمور فيها من مطالبة شعبية سلمية ومحقة بالحرية والكرامة والعدالة إلى حرب أهلية تقوم على معادلة إما أنا أو لا ليبيا، وإفناء شعبها، الذي وصف أبناءه «بالجرذان والكلاب الضالة»، كاشفاً بأقواله هذه طبيعة الإصلاح الذي كان ابنه سيف الإسلام يتحدث عنه، وتبيّن خلال الأسابيع القليلة الماضية أنه لا يعدو كونه الوجه المكمل لنظام العنف والقتل القائم، الذي ثار الشعب عليه ويريد الخلاص منه بأي ثمن.
يتفكك النظام ويتهاوى، وهو آيل إلى السقوط. هذه نتيجة حتمية يستخلصها من يراقب أحوال ليبيا وشعبها المظلوم، الذي سيكون عليه الصمود لبعض الوقت أيضاً، لكنه سيخرج من الأزمة الراهنة مثخناً بالجراح غير أنه مرفوع الرأس، لأنه قرر التضحية من أجل حريته وقاتل من أجلها، ولا بد أن ينالها، بينما سيخرج القذافي ونظامه الشخص الواحد من ليبيا، ليبقى في ذاكرة مواطنيه، إنْ بقي في ذاكرتهم، كجلاّد وضع سلطته فوق أية مصلحة أو اعتبار، إلى أن سقط كرسيه الثقيل على رأسه فقتله!.