بنظرة أولية إلى الأوامر الملكية الكريمة وما تحمله في طياتها من معانٍ رفيعة، ومواقف شريفة، يدرك المرء أنها أتت في حينها، وستكون بإذن الله غيثاً هنيئاً على كل المواطنين في بلاد تحقق الأماني.
وحينما تتعدد الأوامر فإن القلم يقصر عن الإحاطة بإيجابياتها غير أن ما لا يدرك جله لا يترك كله. فأقول: إن الدولة السعودية منذ قيامها بأطوارها الثلاثة اتخذت الإسلام منهجاً وتشريعاً، وجعلت حملته رباناً في الشدة والرخاء.
لذا جاءت الأوامر تحمل معها أجمل وشاح، وأحلى لباس، دثرت به علماء الشريعة لأنهم علماء ملة، وحملة أشرف رسالة، فحظاهم الملك بأنفس رعاية وأبلغ عبارة إذاً أوامر الملك في العلماء وحملة الشريعة ذات مدلولات منها:
1- إن هذه البلاد المباركة منحت العلماء القدح المعَّلا من الاحترام والتقدير وقل التقديم في كل حين.
ولا غرابة في بلاد الحرمين أن يضع الحاكم يده بيد العلماء لأنها بلاد أُسست على شريعة من الله.. وها هي ترعى هذا المبدأ وتحيطه رعاية وعناية.
فهنيئاً للمليك بالعلماء وهنيئاً للعلماء بالمليك قال عمر رضي الله عنه: (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
2- في مضامين ما أصدره الملك -حفظه الله- الذَّب عن العلماء وصيانة عرضهم مع رفع شأنهم. وفي الحديث: (من ذَبَّ عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه يوم القيامة) وبجعله -رعاه الله- حماية جنابهم مسؤولية الحاكم يكون قد حمى الإسلام بحماية حملته، وحفظ قاعدته.
قال زياد بن أبيه: (أيها الناس إني بُتّ ليلتي هذه مهتماً بخلال ثلاث. ورأيت إعظام ذوي الشرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان والله لا أُوتي برجل ردّ على ذي علم ليضع بذلك منه إلا عاقبته... إلى أن قال: إنما الناس بأعلامهم وعلمائهم وذوي أسنانهم).
3- في شكر الملك للعلماء والدعاة مدلول على دورهم الأمني بوأد الفتنة بمهدها إنه مبدأ في شريعتنا من حماية للجماعة ونبذ للفرقة.
إن أياديهم قوية في كبح جماح كل فتان، أراد زلزلة وارتجاجًا.
ولا شك مثل هذا وسام لكل عالم جعل حماية الأمة مقصده، ورحمتهم مبدأه.
فسبحان من ألقى لهم القبول، ولكلماتهم غور في القلوب، وقد قيل (ما خرج من القلب نفذ إلى القلب). وقيل (العلماء قادة والفقهاء سادة ومجالستهم زيادة).
4- إن المتأمل في أمر الملك يدرك أن علماء بلادنا ليسو بمنأى عن فقه الواقع بل هم يعايشون المستجدات ويحققون لها المسائل وينزلونها على البراهن فتصدر أحكامها وفق الرؤية الشرعية. فلا مجال للتقليل من شأنهم إنهم مع الأمة بجميع شؤونها.
فما نزلت نازلة إلا وجاء حكمها كفلق الصبح ولنا في التاريخ شاهد.
5- العلماء هم أطباء القلوب وأي قلب أشرب فتنة لا يداويه إلا العارف بصقله والموفق لإعادته إلى صوابه. وهذا الدواء يؤخذ من الأدوية الإلهية.
لأن القلب متى تنور بالإيمان أمكن كبح جماحه وتعديل مساره لأنه بنور دينه يهتدي وبالمناظرة والمحاورة يعود إلى رشده.
وما إن علَت المظاهرات في البلاد حولنا حتى أخذ بزمامها الكثير والكثير ظناً بسهولة أمرها ومآلها.
وفي بلاد الحرمين حينما اتفق الولاة والعلماء في دفع الشبهة بالنور الإيماني انكشفت الغُمة والحمد لله.
6- حمل أمر الملك ترسيخ محبة الدولة للعلماء ومحبة العلماء لدولتهم مما كان له صدى في أفراد المجتمع فانعكس على تقبل بيانات دولتهم وعلمائهم في درء كثير من النوازل والفتن.
لأن الحكم إذا صدر عن أهله الموثوقين فاز بالقبول ورفع كل خلاف قيل (الحكم يرفع الخلاف) فأحكام هيئة كبار العلماء رفعت وترفع التنازع والخلاف.
فتصفو القلوب وتتوحد الجهود مستمدين أحكامهم من كتاب ربهم {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
7- من قرأ بيان هيئة كبار العلماء في وأد الفتنة يجد فيه سمة الإخلاص، وصفة الشفقة والرحمة ففي الحديث (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) إذ غلّبوا المصلحة العامة على الخاصة، كافحوا ونافحوا ليبقى البلد متماسكاً شاداً بعضه بعضاً وهمهم عصمة الأمة وتوحيد الصفوف ولا يأتي مثل هذا براحة الجسم بل ربما أعياهم وأتعبهم في مهده فكيف بعد بزوغ شمسه.
وهكذا يكون علماء الملة رحمة على أمتهم ودولتهم.
8- إذا كان خادم الحرمين قد منح العلماء تاجاً يتوشحونه فقد أحاطهم بفائق الرعاية وسور الحماية وهذا أدعى لعلو شأنهم وأرفع لمكانتهم. فهم الآن بمنأى من المتسلقين والمتطفلين.
قل لمن يدعي في العلم معرفة
علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
وشتان بين الاثنين هذا بالثرى وأولئك بالثريا.
9- إن نصيحة العلماء للولاة دين (الدين النصيحة) ولا غضاضة فيها على أحد متى وقعت موقعها، إنها تدل على محبة المنصوح وكان يقال: (أنصح الناس لك من خاف الله فيك) وهي مكملة لعمل المؤسسات والأفراد بل طريق يستنير به باغي الحق وناشده.
وهذه علامة نراها شاخصة في بلاد الحرمين بين ولاة أمرنا وعلمائنا.
الكل يريد الحق ويؤمل الغاية فتتضافر الجهود ويتحقق المأمول .
لما وقعت الفتنة في عهد عثمان -رضي الله عنه- قيل لأسامة بين زيد: ألا تنكر على عثمان؟ قال زيد أنكر عليه عند الناس؟ لكن أُنكر عليه بيني وبينه ولا أفتح باب شر على الناس.
10- إذا كان الحط من قدر الآخرين مثلبة فكيف إن كان في أشراف القوم إنه خرق لسفينة الأمة وكبح سيرها في الكوكبة.
ولا يخفى أن الازدراء نهج أصحاب الأهواء والمبتدعة لأن في إسقاط قدر العلماء وولاتهم يهون أمرهم وتقل منزلتهم عند رعيتهم فيضعف الانقياد لهم. وحينما تكون لحمة الأمة مجتمعة يقوى أمرها ولن يضيرها رمي بالسهام وتراشق بالكلام ويقال: (العلماء تنسخ مكائد الشيطان).
لذا كان خطاب الملك سدًّا منيعًا وسورًا شامخًا في درء كثير من بواطن أهل الأهواء عند الفتن والنوازل.
11- من بوادر المليك وبوادره كُثر تأسيس مجمع فقهي سعودي فيه يصان علم الأمة، وبين أروقته تدرس المستجدات عند بزوغ شمسها، وتبنى المسائل على الأدلة والبراهين. وميداناً فسيحاً لبحوث ودراسات ذات قيمة علمية.
فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين.
والله أسأل أن يوفق مليكنا إلى كل خير، وأن يرفع قدره، ويسدل عليه نعمه ظاهرة وباطنة ويوفقه لما يحب ويرضى والله الموفق.
مدير المعهد العلمي في البكيرية