أحيانًا نبدو خارج هذا العالم المسكون بالرعب حين نجدُ أنفسنا محاصرين بمخاوف وهميةٍ؛ فننقادُ لما يثيرُ الاختلافات والحساسيات حول معرضٍ ومهرجان وكتاب ونقاب، وننشغل عن معضلات «الوجود» داخل دوائر مشتعلة تصلانا نارها ويخبو نورها، وترتفع الأصواتُ والأيدي، وتتكسر صلاتُ بني الأب عبر لغةٍ متشحةٍ بالتشنج والتصنيف.
- «سننتصر عليكم أنتم وأشكالكم» عبارةٌ صيغت بجمل مختلفة وتكررت في معرض الكتاب ليظنَّ من يسمعها أن المخاطَبين بها «فرسٌ أو يهود»؛ ما يشير إلى افتقاد قائليها المقدرة على تمييزِ ميادين النزال، واحتياجهم لمعرفة منطق التعبير ومنافذ التغيير وأمداء الخلاف المنتهي بفلول الهزيمة وحشود النصر.
- مفرداتٌ تائهةٌ تفر من أفواه بعضنا دون أن تعبر عن قضيةٍ تستحق التصعيدَ اللفظي والتجهم الشكلي؛ حيث اختاروا الأمكنة والموضوعاتِ والشخوصَ الخاطئةَ، مع أن ما يفترق فيه الطرفان لا يتجاوزُ تعدديةً في التفسير والمرجعية دون انفصال في الانتماء والهُوية.
- قيل ما قيل ولن يقف القول حتى نتفق على ميثاق شرفٍ يمنعُ الاستقواءَ بسلطةٍ رسمية أو معنويةٍ، ويتيح التداخلَ الحواريَّ فيحفظُ للجميع حق الكلام اللين، ويمنع الجميعَ من استعداء الفعلِ المهيمن، ويرفضُ الوصايةَ والأوصياء، ويراعي أساسات التربيةِ وأبنيتَها.
- لم يكن زمنًا بعيدًا ذاك الذي تعلمنا فيه أن للكبيرِ «علمًا وعمرًا» قدره؛ فلا ينازَعُ في مكانه ولا تهان مكانته، وارتاد كثيرون من الصغار مجالس الكبار، وربما التقطوا خطأً لمتحدث فعبر في أذهانهم ولم ينعكس على سلوكهم، وما كانت تغريهم نشوة الاستعراض كي يُظهروا التعالمَ ليحظوا بالرضا، ووعوا - مع جدل الكبار - فضيلة الصمت كيلا تغلبهم أهواءٌ عابرة لزَهو الذات فتفوتَ عليهم قراءةُ الصورة بكل وجوهها، ولم يكونوا، أو معظمهم، مُستعبَدين لأدلجةٍ ولا متعبدين بتبعية؛ فإذا خلا المجال معهم حاوروهم بما يظنون أو يتيقنون، وتواصل الجميع بوعيٍ وتوقير.
- تبدل الزمنُ للأحسن دون ريب، وصار أبناؤنا على دراية بما لم ندره، وأتيح لهم ساحةُ المقال ليعلنوا اقتناعاتهم دون أن يضعوا فاصلة السن والتجربة مقياسًا أوحدَ للتفاضل، وما يزال بعضنا يتهيبُ بعض أساتذته، في حين يجد الفتى نفسه متحللا من حرجِ المناظرةِ في إطارٍ من الذوق والهدوء.
- ليسوا سواءَ؛ إذ المفارقة - اليوم - ظهور جيلٍ مختلف لا يعبأ بمعايير الخلق العظيم؛ فلا يتورع عن زوي حاجبه ورفع صوته وإظهار تبرمه لمجرد أنه يتكئ على مرجعية مطلقةٍ؛ حَسِب واهمًا أنها تُشرعنُ له الحق في الجزم والعزم والأمر والنهي والمصادرة والتكميم.
-كنا نتخيل انصراف شباب الأمة للتفكير بتحرير الغد المعتقل من مخططات كسرى وقيصر؛ فإذا همُّهم التجاذب داخل مساحاتِ التيه، وإذا خلافاتهم تحصر الحق في قولٍ مبتسر ورأي مختصر، وإذا السادن ساكن في المتحرك والتابع متحرك في الساكن، وإذا الناس مرتهنون ل»تسونامي» ثقافية تظن الحياة منفى والفكر نفاية.
- لم يكن أحدنا يظن أن برامج ثقافيةً ستدار بحضور أمني، وكنا نحسبها مواسمَ فرح؛ تُنير وتستنير؛ فإذا هي جبهةٌ للتوفُّز والتحفُّز تصطرع حول إنسانٍ وعنوان، ويعود الشموليون بأشكالٍ جديدة؛ فقد كان أولئك يتحسسون مسدساتهم وأولاءِ يستنفرون مؤسساتهم حين ترتفعُ رايةُ الثقافة.
- التنوعُ ثراء.