لا يبخل أهل الحكم في إيران بنصائحهم على العرب، ويبدون درجة كبيرة من التعاطف مع شعبنا، فتراهم يوصون حكوماته خيراً به، وينصحونها بتفهم مطالبه وحاجاته، حتى ليبدو من المناسب تذكيرهم بتطبيق القاعدة ذاتها على علاقاتهم مع شعوبهم والمعارضين من قادتهم.
قال أبو الطيب المتنبي قبل قرابة ألف عام: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله»، وها هم القادة الإيرانيون يرشدون غيرهم إلى أساليب في التعامل مع شعوبهم يرفضون هم تطبيقها داخل بلدهم، حيث منعوا المظاهرات الشعبية المؤيدة لشعب مصر، وفرّقوها بالرصاص حيناً والعصي حيناً آخر، واعتقلوا عدداً من الذين شاركوا فيها في مختلف المدن، إلى أن اعتقلوا السيدين موسوي وكروبي: رئيس وزرائهم ورئيس برلمانهم السابقين، بتهمة خطيرة جداً هي الخيانة العظمى، مع أنهما لم يفعلا شيئاً غير تأييد طرف أعلنت الحكومة مرات متكررة تأييده، فلا مبرر لاتهامهما بما لا ينطبق على السلطة، التي اتخذت موقفاً يتطابق تمام التطابق مع موقفهما، لكنها أرادت على ما يبدو تطبيقه خارج حدودها، بينما التزما هما بما يتطلبه داخل إيران، فأدخلته السلطة في سياقات ليست مقصودة به، وجعلته جزءاً من الصراع معهما، بحجة أنهما وجدا في الحدث المصري مناسبة لتذكير الإيرانيين بنضالهم من أجل الحرية، ضد النظام القائم، مما حوّل فعل تضامن مع شعب شقيق إلى سبب آخر للشقاق الوطني، وللإقدام على خطوة في حجم اعتقال سيدين مهمين جداً هما من عظام رقبة النظام، كما يُقال.
لماذا يتنكَّر قادة طهران الحاليون في بلادهم لما يقولون إنهم يؤمنون بضرورة تطبيقه خارجها: عند العرب، ولماذا يقاومونه؟. هذا هو السؤال المحير، الذي لا نجد له تفسيراً غير خوف هؤلاء من إصابة مجتمعهم بعدوى مصر، فينزل إلى الشوارع مطالباً برحيلهم، وعندئذ لن يحميهم جيش أو حرس ثوري أو باسيج، وسينكشف المستور، وهو أنهم ليسوا محبوبين من شعبهم، وبخاصة طبقته الوسطى، التي أثبتت طيلة العام الماضي أنها لا تتوق إلى شيء قدر توقها إلى التخلص منهم، بعد أن اتهمهم ملايين الإيرانيين بتزوير الانتخابات الرئاسية في العام الماضي، وعارضوا بصورة صريحة ومعلنة سياساتهم الإقليمية، وبخاصة ضد جيرانهم العرب.
والخوف سرعان ما يتحول عند انعدام المنطق في زماننا إلى مشكلة أمنية، تجعل من يعالجها بالخوف غير واقعي في أحيان كثيرة، بمعنى أنه يرى الأخطار حيث لا توجد، ويغرق في أوهام مبالغ فيها من صنع خياله، فيتوهم أعداء لا وجود لهم، هم مرة جيرانه هنا أو هناك، وتارة مواطنوه أنفسهم، الذين يجعلهم عمقاً للعدو الخارجي منغرساً في جسد الوطن الداخلي، وهذا منتهى الخطأ بالنسبة إلى من يتحمل المسؤولية، بما أن الأصل هو أن يرى المرء عدوه في الخارج، وأن يستقوي عليه بالداخل، أي بشعبه وليس العكس، أقله لأن هذا العكس يفرض عليه سلوكاً مدمراً ينقل التوترات مع العدو إلى الداخل، حيث تصير تناقضات أكيدة تسمم الجو الوطني وتشحنه بعناصر تفجر مفتعلة، لا هدف للحكومات الرشيدة غير جعل شعوبهم وبلدانهم تتحاشاها، فإن حدث وسقطت عالجتها بالحكمة وبُعد النظر، وليس بالاتهامات والتشنجات والتوترات، وبخاصة العنيفة منها، التي «تعمل من الحبة قبة» كما يقولون، وتفرّخ أزمات لا لزوم لها يتكفل التوتر وسوء الفهم بتعقيدها وجعلها عصية على الحل.
هناك دولتان في منطقتنا تسيران على هذا النهج، الذي يقلب أي موضوع مهما كان صغيراً وقابلاً للمعالجة إلى مشكلة أمنية خطيرة تصعب معالجتها بغير الوسائل غير السياسية، أي العنيفة. وفي حين تعامل إسرائيل (أولى هاتين الدولتين) العرب بهذه الطريقة، وتستبعد منها مواطنيها، حتى عندما يقومون بأفعال تهدد الأمن أو من طبيعة أمنية، فإن إيران (الدولة الثانية) توجه السياسات الأمنية ضد مواطنيها بالذات، الذين يتعرضون لاتهامات تجعلهم غير وطنيين، خونة وخارجين على القانون، فلا يعتد خلال ذلك بما إذا كان المتهمون من الذين قدموا خدمات كبرى للدولة، كالسيدين كروبي وموسوي، الرجلان اللذان عاصرا الثورة الإسلامية منذ يومها الأول وشاركا فيها بنشاط، وتحمّلا أعلى المسؤوليات في أجهزتها القيادية، ويعرفان بالتأكيد ما يجوز وما لا يجوز بالنسبة إلى المصالح العليا للدولة الإيرانية، كما يعرفها غيرهم من قادة إيران، بل ويؤمنون بضرورة تحقيقها، وإن اختلفوا مع السيد أحمدي نجاد، رئيس جمهورية الدولة الشقيقة، على تفاصيل تحقيقها، وسبل ترجمتها في الواقع.
ويزيد الأمر سوءاً حقيقة أنه يوجد دوماً في كل بلد من يهددون أمنه. هؤلاء يكونون في العادة قلة قليلة، تُحال إلى المحاكم وتذهب إلى السجون من أجل رد أذاها عن الشعب والوطن. أما أن يُتهم بالخيانة جمهور غفير نزلت ملايينه الثلاثة عشر ذات يوم إلى الشارع للاحتجاج ضد ما قالوا إنه انتخابات مزورة، فهذا أمر يكاد لا يصدق، لأنه ليس من المعقول بكل بساطة أن يصل عدد الخونة في شعب من الشعوب إلى سدس سكانه، مهما بلغت درجة خلافهم مع الحاكم واختلافهم عنه في وجهات النظر والمواقف!. ولعل هلوسة الأمن والخوف من الناس هي التي تدفع بالخائف إلى عدم ملاحظة هذا الخطأ الفادح وتناسي أو تجاهل الحقائق، حين يتحدث أو يلقي خطاباً، وهي التي تغريه ربما باعتبار ضخامة العدد دليلاً على صحة الاتهام، على العكس مما يقوله المنطق السليم. على كل حال، كانوا في طهران يعتقدون أنهم يستطيعون السيطرة على الآخرين عبر تصدير «الثورة» إليهم، واليوم، يجدون أنفسهم أمام ثورة تدق أبواب دارهم وتوشك أن تحطم جدرانها، لذلك يدفعهم الخوف والاضطراب إلى هذه البلبلة المزرية.
لا أجد صفة أطلقها على هذا النهج غير الذهاب «عكس السير»، وعكس السير يعني أن يذهب أحدهم في اتجاه ويذهب بقية خلق الله في اتجاه مناقض. يقولون إن لأي عصر روحاً عامة تلعب دوراً كبيراً في تكوين وعي البشر، وتطبعهم بطابعها. ويقولون إن روح العصر هي التي تحدد الركائز والأسس العقلية لمن يعيشون فيه، وتقدم لهم الإطار الملائم للتفكير والشعور الجمعي. إن السير عكس السير هو سير عكس روح العصر، وهو أمر تكون نتائجه وخيمة غالباً على من يحاوله أو ينساق إليه، لأي سبب: والدليل موقف سادة إيران من حرية شعبهم وحقه في الدفاع عن العرب، الذي تفسره خشيتهم من أن يقتدي بما يفعله هؤلاء في أيامنا!.