مهما أقدم الإنسان على ابتكار شيء من الجمال فهو عائد لما فطر عليه وبما منح من حب لكل جديد يعكس فيه أو به ما استخلصه مما أبدعته يد الخالق، والأمثلة كثيرة والشواهد أكثر فكل ما نراه من مصنوعات نفعية أو أنماط عمارة لا بد أن يكون لها أصل في الطبيعة، المباشر في الشكل، أو المستنبط، أو المستلهم منها، ومع هذا لم يستطع الإنسان مجارات ذلك الواقع الذي لا يمكن انتقاده أو تحديد القبح فيه، لما فيه من جمال يعجز البشر عن الإلمام به والوصول إلى أبعاده إلا بالقليل من مكامن التفاعل معه في العقل والوجدان، لهذا اختلفت الآراء حوله، ومن المؤسف أن نجد أن الإنسان مهما حاول إضافة جمال على البيئة فإنه يخلف من القبح ما يعادل ما أحدثه من الجمال الأصل، ولنا في ما نشاهده على امتداد الطرق من عبث بالطبيعة وتغيير ملامحها الجميلة التي حبا الله الأرض بها وفضلها على مختلف الكواكب بما يحدثه الإنسان من النبش والحفر واقتطاع الأتربة من وجه الأرض القريب من الطريق من أجل رصفه دون تحسينها، ملغيا بهذا التصرف مساحات كبيرة من الأرض البكر التي تزدان في فصل الربيع باخضرار يطرب له المسافر، أو هدم مباني شعبية لإقامة طريق أو حديقة داخل المدن أو قرى تاريخية تعتبر في دول أخرى آثارا تستحق الإبقاء لتبيان الفرق بين ما أصبحنا عليه وما كان عليه من سبقونا من حياة ومعيشة لن يعد للأجيال الجديدة علم بها دون وجود تلك الأمثلة .
هذه المظاهر( كوم أو في كفة كما يقال ) وما يحدثه الإنسان في مواقع وأماكن يشاركه فيها الكثير ( كوم وكفة أخرى)، ولنا في هذا شواهد ومشاهد وإحساس مؤلم عندما لا يعير الإنسان الجمال أهمية أو أن يتعامل معه بشكل مؤقت دون أدنى حفظ للشعور الذي انتابه عند رؤيته لذلك الجمال أول وهلة، هذه المشاهد أصبحت مقززة وكاشفة لتخلف عقول البعض من الناس ومن المؤسف أن أعدادهم ليست قليلة نرى هذه الحال عند قيام أحدنا برحلة برية لمواقع ومنتزهات فطرية لم تتدخل فيه يد البشر تتوزع على أرض الوطن يتسابق إليها محبو الصحراء ليتمتعوا بما كساها الله به من جمال يسر الناظرين ليقضوا فيها ساعات أو أيام وهم في نشوة لا توصف إلا أنها تنتهي بخراب ودمار بحجم المكان والمساحة لا تقل عن دمار فيضان أو بركان، مخلفين فيها ما أبقوه من طعام ونفايات تغطي الأرض وتبعث الروائح المقززة، أو أن يتعدى أحدهم على ما أقيم من سياج لحماية الموقع لإدخال السيارات والعبث بعجلاتها بالإخضرار الذي يغطي الأرض أو ما ينتج من إشعال النار أو إقامة خيمة تحجب ضوء الشمس عن النباتات والأزاهير.
لقد تألمت ومن معي لمشاهدة هذه الحال في منتزهاتنا البرية مع ما تقوم به البلديات القريبة من تلك المواقع من خدمة يومية وحرص على إبقاء جمال تلك المنتزهات التي لا تدوم أكثر من فترتها الربيعية القصيرة التي يفترض أن يتعامل معها زوارها بما يضفي عليها جمالا ويبقيها لغيرهم.
تلك المواقع والأماكن المشهورة عند أبناء الوطن موعد وملتقى ينتظر عاما بعد عام، يغسل الإنسان فيها همومه ويعيد ترتيب مشاعره وأحاسيسه بمشهد الربيع وقطرات الندى وعطر الخزامي في مساء يحمل موعدا آخر ليوم جديد، يتسابق المبدعون وعشاق الصورة واللوحة إلى تسجيل أجمل اللحظات لزهرة هنا وغدير هناك وطائر يملأ الكون غناء، يتنافس المتنافسون من المبدعون على توثيقها بسبل التعبير لالتقاط أجمل الصور ورسم اللوحات، أضفوا بها على جمال منازلهم جمالا فجعلوا لها أمكنة في كل زاوية وجدار ليعيدوا بها موقفا وذكرى ولقاء بجمال أبدعه الخالق لا ينضب ينبوع الاستمتاع به ولا يستبدل بصنع مخلوق، فمشاهدة الربيع الفطري في تلك الأماكن له شعور خاص وإحساس جميل غامض يجمع بين عجز عن امتلاكه وجدانيا وإبقائه دائما وبين الكيفية التي تشبع المشاهد بما يراه، كأنما يقف الإنسان أمام حبيب مودع.
هذه مشاعر جمعتها بعد وقفات على عدد من الأماكن المشهورة كمنتزهات ربيعية في الصحراء تنتهي بعد زيارة البعض من قتل ووأد لجمال من صنع الخالق أفسده المخلوق لا يجد الآخرون من بعده موقع قدم مما خلفه السابقون.
هذه التصرفات غير المسئولة وبهذا الحجم من الإعداد في الفاعلين لها يؤكد خلو عقولهم من رقي الذوق وافتقادهم كيفية احترام الجمال وافتقارهم لأدنى شعور بالآخرين .
تذكرت وقتها ما تلقيناه من تدريب في المعسكرات الكشفية في المرحلة المتوسطة نقوم فيها بتجهيز موقع نصب الخيام واختيار المكان المناسب الذي لا يؤثر على البيئة مع ما يعد من حفر خاصة لمخلفات الرحلة يتم طمرها يوميا واستبدالها بأخرى لئلا يظهر على أرض المعسكر أي مخلفات تشوه جمال الموقع وجمال الإحساس به، فهل مثل هذا الفعل كان صعبا على مرتادي تلك الأماكن؟! مع توفر سبل النظافة من أكياس أو حاويات ، هذا الأمر لا يعمم فقد شاهدت عائلة تحمل بقايا وجبتهم معها لتضعها في حاوية على الطريق .
كل عام وأنتم في انتظار ربيع لا يشوبه دمار أو تشويه.