يُعتبر الأمر الملكي بإنشاء هيئة مكافحة الفساد وربطها مباشرة بالملك، أحد أهم الخطوات الإصلاحية التي صدرت مؤخراً ضمن حزمة أوامر ملكية ذات مردود اقتصادي واجتماعي حيوي وهام لرفاهية الشعب السعودي. والواقع يشير إلى أن اهتمام خادم الحرمين الشريفين بهذا الجانب ليس بالجديد، فقد أقر مجلس الوزراء عام 2007م الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والتي جاء في مقدمة أهدافها حماية النزاهة ومكافحة الفساد بشتى صوره ومظاهره وتحصين المجتمع السعودي ضد الفساد. وأقر من خلالها إنشاء هيئة وطنية لمتابعة تنفيذ تلك الإستراتيجية الوطنية. وفي العام الفائت وهذا العام صدرت قراراته - حفظه الله - على محاسبة المقصرين والمتسببين في كوارث جدة عقب الأمطار وهي محاسبة تنطوي على مكافحة الفساد في مضمونها.
الفساد له أوجه عدة يصعب حصرها ومنها: استغلال النفوذ الوظيفي لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو أسرية، والرشوة واستخدام السلطة بشكل مسيء ومخالف للقانون وتجاوز الأنظمة والقوانين والتستر على المتجاوزين والمخالفين للأنظمة والتعليمات وغير ذلك من المظاهر. وتسبب ظاهرة الفساد في خسائر تُقدر بمليارات الريالات، حيث قدَّر اقتصاديون عام 2007م الخسائر التي تتكبدها المملكة نتيجة للفساد بنحو ثلاثة تريليونات ريال أو ما يعادل 800 مليار دولار أمريكي (وفق تقارير صحفية محلية نشرت آنذاك). كما أن منظمة الشفافية العالمية وضعت المملكة في المرتبة 50 من أصل 178 للعام 2010م بمعدل 4.7 من عشرة (أقل من 5 نقاط)، حيث إنه كلما اقترب المعدل من عشرة كان الفساد أقل وكلما اقترب من الصفر كلما زاد معدل الفساد، علماً بأن وضع المملكة تحسن من المركز 76 إلى المركز 50 خلال السنوات الأربع الأخيرة.
محاربة الفساد في مجتمعات مثل المملكة يتطلب بُعدين أساسيين، أحدهما قانوني وهو ما تقوم به الأجهزة الرقابية ويتوقع أن تلعب الهيئة الجديدة دوراً كبيراً في القيام به، والآخر بُعد اجتماعي ثقافي تراثي يتطلب الكثير من الجهد الذي يتجاوز الجهد الإداري، حيث إن بعض الموروثات الثقافية والقبلية والدينية مثل تعزيز دور الواسطة أو ما يتحايل عليه بمصطلحات أخرى مثل الشفاعة والنخوة والحمية تلعب دوراً كبيراً في توسيع عمليات الفساد، بالذات الوظيفي منه. كما أن بعض الأعراف التي تعزز الانحياز الفئوي بكافة أشكاله القبلي والمناطقي والطبقي والمهني والمذهبي تُنمي بعض جذور الفساد وتعززها، حتى في الأوساط المتعلمة والمثقفة وخصوصاً أن بعض تلك المفاهيم يتم تسويقها على اعتبارها قيماً أصيلة يجب التحلي بها وتعزيز الانتماء إليها.
وهنا نشير إلى أن بعض فعل الفساد الذي يتم، ليس بالضرورة يحدث نتيجة عمد وتقصد، وإنما يحدث كجزء من ضعف الوعي الثقافي بجوانب الفساد ومضاره، حين لا يتم التفريق بين القيم المجتمعية والثقافية وبين مظاهر الفساد بكافة أشكاله. لذلك نحن بحاجة إلى إستراتيجية شاملة في مكافحة الفساد تبدأ آلياتها من نقدنا للقيم السائدة وبيان ما يتعارض منها مع المفاهيم المؤسسية الحديثة للعمل الإداري والتنموي ولمفاهيم العدالة والولاء الوطني الحديث. نحن بحاجة إلى عمل يتجاوز الفعل القانوني والإداري إلى التثقيف التعليمي والإعلامي والإداري بمخاطر الفساد وأوجهه الظاهرة والمستترة في وسطنا المحلي.
نكرر ترحيبنا بالأمر الملكي بإنشاء هيئة مكافحة الفساد، كخطوة أولى يجب أن لا تُنسينا بأن الطريق طويل في هذا المجال.