بين الكتاب وصاحبه، علاقة متأصلة، وجذوة متقدة، ولهفة متجددة، وهي كذلك ما ظلت الحاجة إلى إمتاع النَّفس، وتوسيع آفاق الفكر، بحروفه ومعانيه، وبديع بيانه.
وحين نحتفي بالكتاب، فإننا نتمثلُ في ذلك بتاريخ أُمتِّنا الذي أضاء سماء الشرق والغرب برصيد علمي ومعرفي, لم تجف محبرته على امتداد حِقب الزمن، وتعاقب الأجيال.
وحين نحتفي بالكتاب كذلك فإننا نحتفي بفضله ومكانته، ودوره في توثيق ورصد الأحداث والأخبار، والاختراعات والاكتشافات، وعموم الثقافة الإنسانية بامتداداتها التاريخية.
في وصفه، وبيان فضله، قيل الكثير من الكلِم، والشعر، والحِكم، والفوائد، وأعجبني في هذا الشأن ما أورده أبو عثمان عمرو الجاحظ- رحمه الله- في كتابه الموسوعة «الحيوان» في جزئه الأول تحت عنوان «فضل الكتاب» حيث أحاط بقيمته الرمزية والفنية والموضوعية، بعبارات بليغة، وصورٍ بيانية بديعة، فهو «الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغْريك، والرفيق الذي لا يملُّكَ... الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك، وشحَذَ طباعَك، وبسَط لسانَك، وجوَّدَ بَنانك، وفخَّم ألفاظَك، وَعمَّر صدرك، وعَرفتَ به في شهر، ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر، ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء. يُطِيعُك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعُك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنومٍ، ولا يعتَرِيه كَلالُ السهرِ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرتَ إليه لم يُخْفِرْك، وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة، وإن عُزِلتَ لم يَدعْ طاعتَك، وإن هبَّتْ ريحُ أعادِيك لم ينقلبْ عليك، ولم تَضْطَرَّك معه وحشةُ الوَحدةِ إلى جليس السوء، ولو لم يكن مِن فضْله عليك، وإحسانِه إليك، إلاّ أنّه يشغَلُك عن سُخْف المُنَى وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب...».
هذا البيان البديع عن مكانة الكتاب وفضله، بسياقه وامتداده في الماضي والحاضر، يعكس منهجية ثقافية ممتدة، يتوارثها جيلٌ إثر جيل، ومجتمعٌ إثر مجتمع، لتأصيل القيمة المعرفية، والتطلعات الإنسانية، ومسارات الأُمَّة الحضارية.
هذه الثقافة الحيَّة يمكن تحسُّس إرهاصاتها في الاهتمام العالمي المطِّرد بإحياء فعاليات الكتاب، من خلال ميكنة المطابع، ونشاط المكتبات، والمراكز العلمية، والمعارض الدورية.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار «معرض الرياض الدولي للكتاب» في دوراته السنوية المتجددة، ثمرة مهمة، لهذا التفاعل العالمي ومخرجاته المعرفية.
في دورته المتميزة في هذا العام 1432هـ (2011م) تجلت العناية بالكتاب وتسويقه، من خلال شبكة مترابطة ومتسقة، من الجهود التنظيمية، والخدمات المساندة، على درجة عالية من الاحترافية والشفافية، تضاهي المعايير العالمية، ألقت بظلالها الإيجابية على المشهد العام للتسوق. وجعلت منه وفق رؤى بعض الناشرين والمهتمين من أفضل المعارض العربية من حيث التنظيم والإقبال والمبيعات.
هذه المنظومة الخدمية المتكاملة أتاحت للزائرين حركة التجول بين صالات وممرات المعرض ودور النشر، بانسيابية واضحة، وانبهار عام بحجم وتنوع المنتجات والجهات المشاركة، والاستمتاع بالتالي بتنوع الخيارات، وحرية التصفح والاطلاع والاقتناء، الذي يُشبع احتياجاتهم المعرفية.
استضاف المعرض في هذا العام الثقافة الهندية، ودارت أمسيات ثقافية حول الصِّلات الثقافية الهندية السعودية، والصحافة والمطبوعات العربية في الهند، والإسهام الهندي في الفنون والفكر والثقافة الإسلامية.
ودارت حوارات ثقافية حول قضايا الفكر الإسلامي، والتغيير الثقافي والاجتماعي في الخليج، والثقافة العلمية والترجمة والنشر الإلكتروني والمسرح وفنون الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية، والهويات الثقافية، والثقافة والفضائيات، فضلاً عن الأمسيات الشعرية والقصصية.
ومع التأكيد على أهمية هذه التظاهرة الثقافية، وتميزها، فإنَّ مجالات التحسين في إجراءات التنظيم متاحة مستقبلاً، من خلال المزيد من خطوات التطوير، وهذا شأن طبيعي في الحراك الإنساني، ذي الطبيعة الديناميكية.
في هذا الباب قد ترى اللجنة الثقافية المنظمة لفعاليات هذا المعرض دراسة فكرة تمديد الفترة الزمنية المخصصة للمعرض عشرة أيام إضافية، فهذه التظاهرة الثقافية بفعالياتها وأمسياتها، والجهود غير العادية التي بُذلتْ في الإعداد والتحضير لها، تستحق في نظر عشاقها ومحبيها أن يُمدَّ لها المزيد من الوقت، بما يسمح بإرواء عطشهم من ينابيع محتوياتها وكنوزها، وتلبية احتياجاتهم وتَّطلعاتهم الحقيقية بصورة أكثر عناية وشمولية.
كما قد ترى اللجنة الثقافية المنظمة النظر كذلك في دراسة فكرة تخصيص (أيام للنساء) أسوة بالأيام المخصصة (للجميع) و(للرجال) فالبعض منهنَّ يشعُرْنَّ بحرجٍ شديد نسبياً من مزاحمة الرجال، ويحتجنَّ إلى بعض الخصوصية التي تمنحهن حرية نسبية، في التجول والتسوق والاقتناء.
كلمة أخيرة: نِسب الإقبال الجماهيري العالية نسبياً على معرض الرياض الدولي للكتاب، وربما بِنسبٍ غير مسبوقة، إشارة إيجابية إلى ارتفاع عام في معدلات الوعي الثقافي المجتمعي، مثل ما هو تجديد للعلاقة والصٌّحبة مع الكتاب والاستمتاع بإضاءاته الروحية والنفسية والفكرية.
من مأثور الحِكم:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزَّمانِ كتابُ
2010، يعد أحد أهم المنابر الأدبية التي تعمل على توفير مناخ