يعيش المواطن حالياً في أزمة ثقافية، وقد ظهر ذلك في استجابته في بادئ الأمر إلى خطاب الحوار الوطني وإلى دعوات التعددية والوحدة الوطنية، لكنه سرعان ما عاد إلى الوراء خطوات، فقد حدث ارتداد حضاري في معمعة الأزمة الحالية عند المواطن من أبجديات الحوار الوطني حين تفاجأ بانقلاب الخطاب الثقافي إلى ديني طائفي وعرقي مقيت، يحمل في مضامينه كل النوايا السيئة التي قد تعصف بعقل ومستقبل ذلك المواطن البسيط..
عندما يخون المثقف مبادئه يصبح أكثر سلطوية وعنصرية وطائفية من السلطة، فتجده يشهر قلمه ضد الآخر ويتهمه بالخيانة، ثم يصبح عنصرياً في خطابه. وقد لا أجد له سبباً مقبولاً لذلك التحول في الأشهر الماضية، إذ إن ما يحدث في هذا العصر يختلف عمَّا حدث في سنين الحرب الإيرانيه العراقية وفي حروب الخليج الثانية والثالثة، فالمشهد يختلف تماماً، وقد تغيرت التركيبة الإعلامية للرأي، ليصبح الفرد مصدراً للرأي والتغيير. لذلك من المفترض أن لا يتراجع الخطاب الثقافي إلى فئوي وعنصري، وأن يظل ينتصر إلى ثقافة الحقوق الإنساني..
لقد انتهى عصر الخطاب الشمولي وآفل عصره، لذلك أجد نفسي لا أستسيغ نعت المخالف أو الآخر بفارسي أو بشيعي أو رافضي في الخطاب السياسي الثقافي المعاصر، ونأسف لسماعها من بعض المثقفين بقدر ما نستاء عندما نسمع من متطرف شيعي يصف غالبية سكان المملكة بالوهابية أو النواصب. كذلك كنا ولا زلنا في اتجاه آخر نؤيد حركة الإصلاحيين الفرس في إحداث التغيير الأيدولوجي في إيران الذي يتبناه المتطرفون، وقد فتح الإعلام العربي أبوابه ونوافذه أمام خطاب الإصلاحيين ضد حكم الملالي في إيران، فهل يصح إذن أن نستخدم نعت فارسي وشيعي في الخطاب الثقافي، في ظل تنامي مد إصلاحي شيعي فارسي داخل إيران، وهل يحق لنا أن ندعم ذلك الاتجاه الإصلاحي في أيران؟ لكن في الوقت نفسه نهاجم الآخر!
دائماً ما يثير عجبي ودهشتي تأثير العقل الرياضي أو الكروي -إن صح التعبير- على الخطاب الثقافي المحلي، وقد يكون سبب ذلك التأثير أسبقية تنامي بعض حرية التعبير على صفحات الجرائد الرياضية، لذلك نجد أن كثيراً من القضايا يتم تناولها من خلال العقل الكروي، وليس ذهنية النقد الثقافي، وقد تسهم أرضية الذهنية «الكروية» بين الناس في إذكاء خطابات العنصرية والطائفية بينهم، ويظهر ذلك في نبرة القبلية التي تستطيع تحويل شخص فاشل في حياته العملية إلى شيخ قبيلة تُفتح له المجالس وتصرف له الإعانات، وكما هو الحال في كرة القدم، قد يحول التعصب الرياضي من لاعب فاشل إلى نجم كروي تطارده الفلاشات، كذلك يظهر أيضاً ذلك في شعبية عالم دين معاصر بسبب جرأته في إظهار كرهه الطائفي للآخر ودعوته لقتلهم وسحقهم..
من الملاحظ أن الجماهير تستجيب عقولهم للخطاب السلبي أكثر منه للإيجابي، لذلك تجدهم ينفرون من الخطاب الإنساني الذي يدعو للمساواة والحقوق والواجبات، ويتجهون للخطاب الطائفي والقبلي الضيق الأفق، وفي ذلك موقف رافض لمبادئ العدالة والمساواة والحقوق الحديثة، والتي لها جذور وأصول في خطاب الإسلام الراشد، فالإقصاء يولد إقصاء، والكراهية تولد كراهية، والعنف يولد عنفاً آخر، لذلك نسمع من تارة إلى أخرى صراخاً دينياً طائفياً وثقافياً طائفياً في الإعلام، وذلك استجابة لذلك الميل الفطري نحو الانقسام عند الأمم التي تعاني من أزمة العقل والثقافة والوعي..
بصورة أخرى ما يحدث في البحرين وإيران واليمن وليبيا هو صراع سياسي، وليس طائفياً دينياً، فالمصالح المشتركه قد يجتمع عليها الناس وقد يختلفون، ولو أن القيادات التاريخية في تلك البلاد قادت عربة الإصلاح مبكراً لما حدث أي من ذلك الانفلات الأمني، أو ظهرت آثاره في الإعلام، ودخلت أحداثه البشعة في ذاكرة الشعوب، وعلى المدى الطويل لن يستطيع الخطاب الديني تبرير أي أفعال عنيفة لكبح ذلك الخروج، لأن التغيير قد بدأ، ولا بد من الاستجابة له، وأي تأخير ستدفع المجتمعات الآمنة ثمنه دماً وفوضى..!