الأمن في الأوطان ورغد العيش هو سر استقرار حياة الشعوب؛ فالأمن المالي والسياسي وغيرهما مطلوب في حياة الناس؛ لأن الله امتن على المسلمين بأن آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع؛ فلا تستقر حياة فرد ويؤدي دوره المطلوب في هذه الحياة إلا بوجود الأمن بأنواعه وتوافر القدر المطلوب من رغد العيش.
فلا تؤدى العبادة لله إلا في ظل أمن وارف وعيش رغيد.
وإلا إذا عُدِم الأمن واستبد الخوف وعاش الناس في هرج ومرج عُطّلت المساجد ودور العبادة وتعطلت مصالح الناس؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» أخرجه الإمام مسلم من حديث معقل بن يسار، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه «تعوَّذوا بالله من شر الفتن».
فالفتن إذا أطلت برأسها في المجتمع وجب على العلماء والمصلحين والدعاة وأهل الحل والعقد وصناع القرار التعامل معها بما يوافق شرع الله المطهر.
والفتن هي من سنن الله التي يجب أن يُتعامَل معها بما يرضي الله؛ فهي قدر من أقدار الله؛ فلا تُدفع أقدار الله إلا بأقداره - عز وجل -.
فالفتن إذا أطلت لا يعرفها ولا يسبرها إلا العلماء الراسخون الربانيون، وإذا أدبرت عرفها عامة الناس.
وهي أيضاً بلاء واختبار من الله ليميز الله بها الصادق من غيره.
كما قال تعالى {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
فبعد مقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب توالت الفتن على أُمّة محمد من هنا وهناك؛ حيث قُتل الخليفة الراشد عثمان ثم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب.
ثم ما حصل بين صحابة رسول الله من اقتتال؛ فكلهم سائغ اجتهاده؛ لأن كلاً منهم يريد الحق؛ فالذي اجتهد وأصاب له أجران، والذي اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم، وقد رضي عنهم الله ورسوله، وذلك عندما قال الله تعالى فيهم {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}؛ ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم «هي دماء عصم الله منها سيوفنا فيجب أن نعصم منها ألسنتنا».
والفتن صور كثيرة، منها فتنة المال والولد والجاه والسلطان والفقر والغنى والسراء والضراء..
وأشدها على الناس في أثرها المترتب هي (فتنة السيف) (أو ما يسمى فتنة الخروج على الولاة)، وما يتبعها من تهييج وشق الصف الإسلامي ورفع الشعارات والمظاهرات بكل أنواعها؛ ما يؤدي إلى إراقة الدماء وفساد حياة الناس وتعطل مصالحهم الدنيوية والأخروية.
فقد روى أبو داود في صحيحه عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن السعيد لمن جُنّب الفتن»، وقال صلى الله عليه وسلم «هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن من بيوتكم كمواقع القطر».
وما أدق في وصف الفتن من وصف عبدالله بن عمر رضي الله عنهما؛ حيث يقول «إنما كان مثلنا في هذه الفتن كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها فبينا هم كذلك إذ غشيتهم سحابة أو ظلة فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطؤوا الطريق وأقمنا حيث كنا وأدركنا ذلك حتى تجلى عنا ذلك فأبصرت الطريق الأول فعرفناه فأخذنا فيه، وإنما هؤلاء فتيان قريش يتقاتلون على هذه الدنيا، فوالله ما أبالي ألا يكون لي ما يقتل بعضهم بعضاً بنعلي هاتين».
ويكشف الحقيقة شيخ الإسلام ابن تيمية، ويُفصّل في أسباب نشوء الفتن وخروجها وظهورها ونشأتها.
فيعزوها إلى ثلاث فئات من الناس:
1- فئة مذنبة: بالغت في الثناء والمدح للسلطان، وسوّغت له جميع أفعاله غير الجائزة من فساد وظلم، وأكسبتها الشرعية على حساب الغير.
2- فئة سكتت عن أمرهم ونهيهم، واعتزلت الفتن، ونجت بنفسها، وتركت الأمر والنهي أوله وآخره.
3- فئة أنكرت ونهت وبالغت في ذلك وألّبت الناس على السلطان بقصد حسن أو غير ذلك، فسلكت طريقاً محرماً ومنهياً عنه؛ لأنه سيؤدي إلى ما هو شر منه من إراقة الدماء وتعطيل مصالح المسلمين الدنيوية والأخروية وتعطيل دور العبادة والخوف وانعدام الأمن.
فلا الفئة الأولى ولا الثالثة سلكوا الطريق الصواب، بل سلكوا طريقاً مضاداً لبعضهما البعض، وكلتاهما أفسدت ولم تُصلحا.
أما الفئة الثانية فنجت بنفسها حتى لا تسفك دماً حراماً أو تشارك فيه.
ومنذ مقتل خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ما حصل بين صحابة رسول الله أثر ذلك على حياة الناس؛ فقُطعت أرحام وعُطّلت مساجد، وأُريقت دماء لذلك.
فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «والذي نفسي بيده ليأتي على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل ولا المقتول على أي شيء قُتل» رواه الإمام مسلم.
فلنأخذ من الأحداث الماضية العبرة، وقد كان فيها كبار الصحابة رضي الله عنهم مع اجتهادهم.. مثلما حصل فيما يُسمَّى ب(موقعة الحرة)، وهي حرة مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المدينة المنورة)؛ حيث آلت الخلافة إلى يزيد بن معاوية فدانت له الشام والعراق والحجاز والمدينة، إلا أن هناك بعضاً من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ومكة المكرمة امتنعوا، ففي المدينة المنورة كان هناك صحابيان جليلان هما:
1- عبدالله بن مطيع.
2- عبدالله بن حنظلة ابن غسيل الملائكة.
فلم يرضيا ببيعة يزيد لأمور اجتهدا فيها رضي الله عنهما، هي:
1- تذمرهما من الظلم والفساد.
2- عدم السمع والطاعة له.
فأرسل يزيد جيشاً إلى مدينة رسول الله قوامه 20.000 رجل قاصدين المدينة، واستقر الجيش في الحرة، وخاطب الصحابيَّيْن الجليلَيْن بأن ينزلا على بيعة وحكم يزيد فرفضا.
فكان من ذلك أن استُحلت المدينة 3 أيام، وقُتل أكثر من 1000 رجل من أهل المدينة، من بينهم الصحابيان الجليلان.
وكان الذي يقود الجيش هو (عقبة بن مسلم)، بل سماه السلف (نقمة بن مسرف)؛ فعُطّلت في المدينة في هذه الأيام الصلوات في المساجد، واضطربت حياة الناس وعباداتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فما أشبه الليلة بالبارحة.
وكان موقف الصحابة من ذلك، وعلى رأسهم الصحابي الجليل عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - موقفاً راسخاً؛ فقد ذكر الإمام مسلم في صحيحه عن نافع بن عمر أن ابن عمر جاء إلى عبدالله بن مطيع فقال: «أهلاً أبا عبدالرحمن، اطرحوا له وسادة». فقال: ما آتيتك لأجلس، وإنما أتيتك لأخبرك بحديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال «مَنْ نزع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
بل تجاوز عمر بن الموقف النظري إلى الموقف العلمي؛ فجمع حاشيته وأهل بيته وأبناءه وقال لهم لما خلع أهل المدينة يزيد: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ثم يُنصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه - أي يزيد - إلا كان الفيصل بيني وبينه».
فكان ابن عمر يرى الصبر على يزيد وفسقه وعدم الخروج عليه والفتن التي ترتبت على ذلك أسهل من إراقة دماء المسلمين.
فلوا أخذوا بنصيحة الصحابي الجليل عبدالله بن عمر لسلمت المدينة، وحُقِنت الدماء، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً.
وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وكان من التابعين من تصدي لهذه الفتن، وصار إماماً في ذلك، وهو العالم الجليل التابعي (الحسن البصري)، وذلك في فتنة يزيد بن المهلب والأشعث؛ فكان موقفه الحث على الصبر وعدم الخروج وعدم إراقة الدماء، وقال «والله لو أن الناس يصبرون إذا ابتُلوا بجور السلطان ما لبثوا إلا أن يرفع الله عنهم ذلك، ولكن لجؤوا إلى السيف فوكِّلوا إليه، فوالله ما جاؤوا بيوم خير قط»، وقال «الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن بالاستكانة والتضرع».
فلو استكانوا وتضرعوا إلى الله لنصرهم الله، ولكن لجؤوا إلى السيف فوكِّلوا إليه.
وقال تعالى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (76) سورة المؤمنون.
فما يجري في العالم اليوم نوعٌ من تلك الفتن، وإن اختلفت المسميات، وتعددت الطرق.
فالصبر والنصيحة الهادئة بدون علانية إنما الهدف منها قصد وجه الله، ليس إلا.
وتهييج الناس وشحنهم بادعاء صلف العيش وقلة ذات اليد بزعم أن ذلك إصلاحٌ وإعطاء كل ذي حق حقه فهذا ليس من دين الله في شيء.
بل مناصحة من له الأمر والنهي من خلال طرق سلمية سوية هادئة حتى تبرأ الذمة؛ فوالله لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فكما يتبع الإنسان أجله يتبعه رزقه وقوته،. فالله الله في تجنب إراقة الدماء والابتعاد عن الفوضى والفتن والقلاقل، والله الله في السمع والطاعة لولي الأمر وتجميع الصف ولَمّ الشمل وجَمْع الكلمة؛ حتى تفوت الفرص على من يُبيِّتون لمجتمعنا الشر والمكيدة من جميع ما يُحاط بنا.
فهذا البلد محسود على نِعَم الله الكثيرة، منها الأمن والاستقرار ورغد العيش وجَمْع الكلمة ومحبة الراعي للرعية والرعية للراعي، فانظروا ما حَلّ بالبلدان من هنا وهناك من فوضى وسلب ونهب وقتل وهرج ومرج، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا ووطننا وولاة أمرنا، وأمدهم بعونك وتوفيقك، وخذ بأيديهم لما فيه صلاح البلاد والعباد، واستعملنا وإياهم في طاعتك.
بندر بن مطلق بن شافي العاصمي القحطاني