في كلّ مرة نتحدث عن الاختلاف بين المثقفين وعلماء الشريعة، أو بين المواطن والمؤسَّسات الخدمية، أو بين توجه فكري وآخر، كنت أقولُ لمن يسمعني: لا تقلق، إنه ظاهرُ اختلافٍ يخفي تحته باطناً واسعاً من الائتلاف.
وفي كلّ مرة كان يبرز اختلافنا على السطح، وتتعالى أصواتنا وتتباين، وتتنامى أفكارنا وتتطارح، كنت أقول لمن يسمعني: لا تخف، إنها زوايا رؤية صادقة، تنبع من الوطن، وتجري عليه، وتصبُّ فيه.
نغضب أحيانا فنتطاول على بعضنا، لكنْ سرعان ما نعود إلى أصلنا ساعة الصفر، وننتظم في صورة مطلية بالحبّ، حيث « البيتُ طيني، والمسافات قِصار «.
وكثيراً ما كنت أقول: إنّ بلداً مثلَ المملكة العربية السعودية مفاجئٌ حدّ الجنون، وسيظلُّ مفاجئاً أبداً، فكلما ظنّ فيه أحدٌ ظناً، جاء ظنه خائباً وحسيراً، وجئنا نحن أمماً في ثوبٍ واحد، نعتمر عمامةً واحدةً وعقالاً.
لقد قرأنا عشرات المقالات كانت تؤكِّد بلغةٍ علميةٍ أنّ هناك اختلافاً كبيراً بين أقطاب الأسرة الحاكمة، ثم بعد أمة اكتشفنا أنّ هذه الأقطابَ على قلب رجل واحد، وأننا ننعم باتفاق كبير لا بين أقطاب الأسرة فحسب، ولكن بين الشعب وولاة الأمر، وبين فئات الشعب كلِّها دون استثناء...
عشرات الكتب كانت تستشرف لنا مستقبلاً سوداوياً...، ثم اكتشفنا بعد أحداث (تونس) و(مصر) و(ليبيا)، وبعد أحداثٍ تعالى دخانها من حولنا، أننا نتفيأ هنا ظلاً أخضرَ اللون بارداً، ونعيش في تراحمٍ وتآلف.
وكنا نجد في كلام عددٍ من الراصدين - عربياً وعالمياً - الكثيرَ من التجني والتشفي، وكنا ندفع كثيراً من هذه التهم بحقائق ووثائق لا حدّ لها، لكنها لم تكن كافيةً لأناس جلَّلهم الحقدُ وألجمهم الأذى، فجاء يوم الجمعة (6-4-1432ه) يحمل رداً مفحماً من فئات الشعب كلِّها على أتباع الفتنة والكذب، ثم تلته جمعة أخرى (13-4-1432ه)؛ حملت على كتفيها رداً من الملك عبدالله على قادات الفتنة وقياداتها.
في سبعة أيام فقط، استطعنا أن نرسمَ أجملَ صورةٍ في الدنيا، في نصفها الأوّل شعبٌ يصفِّق للملك، وفي نصفها الآخر ملكٌ يرشُّ على شعبه التفّاحَ والسكّر.
أراد لنا الأعداءُ أن نلتحمَ فتلاحمنا، وتباشروا باختلافنا فازددنا اتفاقاً، وصلوا الجمعة لأول مرة في حياتهم ليشهدوا انشقاقنا، ففاجأناهم نصلي بخشوعٍ خلف إمام واحد لا أئمة، يقطر من وجوهنا ماء الوضوء وماء الوفاء.
مع كلّ موجة تغمر الدنيا يلتفت إلينا الأعداء، ينتظرون لحظة التعثّر أو السقوط، لكنّ طَرْفَهم يرتدُّ عليهم خاسئاً وحسيراً، ونرتدّ نحن إلى ذواتنا نحمل ثقة أكبر بأنفسنا، واعتزازا أوسعَ بقيادتنا.
من (أحداث سبتمبر) إلى (أحداث العراق وأفغانستان)، ومنهما إلى أحداث (الإرهاب) في بلادنا، ومنها إلى الفتن التي تحيط بنا من كلّ جانب، محطات كثيرة بنى فيها الأعداءُ آمالهم بزوالنا، وبنينا نحن فيها قدرةً أكبرَ لغدٍ أصعب وأصعب.
مرت بلادٌ عربيةٌ مجاورةٌ بحالات جمود وانفلات، وفيما بين الطرفين اخترنا نحن الوسط، ومشينا ملوكاً بخطى واثقة..، من (البعثية) إلى (الناصرية)، ومنهما إلى (الثورة الإيرانية)، مضائق كثيرة عبرنا من عنق زجاجتها بأمل لا ألم، وبتفاؤل لا تشاؤم.
ولقد عصفت بالفضاء الذي يحيط بنا رياح عاتية، أرهقتنا حد النهاية، لكنّ إيماننا بالله وحده، ثم بأنفسنا قيادة وشعبا، منحنا القدرة على المواجهة، فخضنا بحراً من النار دون أن يمسّنا غرقٌ أو حرقٌ، وعدنا كما كنا آمنين مستقرين.
حرب الخليج الأولى، ثم الثانية، ومن بعدهما حربا أفغانستان والعراق، ومن بعد البعد أبواب من الشرّ تفتح أمامنا واحداً واحداً، كنا نمرُّ بها دون أن ننفخَ في نارها أو نتلطّخَ بلهبها المستعر.
أبناؤنا، الذين كنا نؤمّلهم في الشباب، راحوا ضحيةَ تغرير وخداع، وعادوا إلينا أحزمةً ناسفة، تتطاير تكفيراً وتفجيرا، فتلقينا منهم طعنة تلو أخرى صابرين محتسبين، وما زلنا صامدين حكومةً وشعبا، حتى أطفأنا آخر جمرة أوقدوها، وكسرنا آخر سيف سلّوه في وجوهنا.
هذه سيرتنا باختصار، شعبٌ جميل يرعاه ملكٌ أجمل، وأرض طيبة ورب غفور، وصحارى تمتدُّ بخيلاء، لا يطفئ عطَشَها إلا الحبّ الصادق والصمود.
وهذه سيرتنا، نقترب كلما تباعدت المسافات، ونزداد صفاءً بعد كل اختلاف، ونزداد إيماناً بأنّ الأصلحَ لنا أن نكونَ أمةً واحدةً، تحت إمرة رجل واحد، يكفيه من الشرعية أننا نحبه حدّ الجنون.
لم نكن بحاجة إلى جمعة الصمود؛ لنثبت للملك أننا نحبه وندين له بالولاء، ولم يكن هو بحاجة إلى عشرين قراراً؛ ليثبت لنا أنه يحبنا ويعتزُّ بوفائنا، وإنما كان الأعداءُ في حاجة ماسّة إلى صورة جميلة كهذه، يرقص فيها الشعبُ أمام القائد كما ترقص قلوبٌ أتعبها الغلُّ والحسد.
لقد تدبرتُ شأنَ الأوامر الملكية الصادرة ظهرَ الأمس؛ فألفيتها مصاغةً بشكل احترافي عالي المستوى، يدلُّ على وعي تام بالحراك الدائر بين أطياف المجتمع؛ ويكفيها من جودة السبك اشتمالها على سمتين:
أولاهما: الشمول، حيث كانت شاملةً لعدد من القنوات المهمّة، وأكبرها: الاقتصاد، والإعلام، والمعيشة، والأمن، بكل ما تحتاجه هذه القنوات من متطلبات، من مثل: مراقبة الأسعار، ومراجعة نظام المطبوعات، وبناء 500000 ألف وحدة سكنية، ورفع مبلغ القرض العقاري.
وثانيتهما: تكريس الهويّة الثقافية للمملكة العربية السعودية، التي عبّرت عنها الأوامر الملكية ب (النهج المستمدّ من الكتاب والسنة)، وهو ما انعكس بجلاء على الأوامر الكريمة؛ حيث انصرف بعضها إلى تفعيل هذه الهوية في الميدان من خلال الأوامر الخاصة بوجوب احترام علماء الشريعة، ومأسسة عملية الإفتاء، ودعم مشاريع تحفيظ القرآن، ودعم مشاريع هيئة الأمر بالمعروف، ودعم مشاريع الدعوة إلى الله في الداخل والخارج، وترميم المساجد...إلخ.
إنها جداول صغيرة تتفرّع من نهرٍ كبير، هو الهوية الثقافية للمملكة العربية السعودية، التي لا تُقْبَلُ فيها مساومةٌ من قريبٍ أو غريب.
ثم إنّ من يتدبر شأن هذه الأوامر يجد فيها توجها كبيراً لدعم الجانب الأمني الداخلي، وأكثر ما يميز هذا الدعم معالجةُ الوضع النفسي لرجل الأمن، وتعجيل صرف حقوقه المادية والمعنوية، وهو ما سينعكس إيجاباً - ولا ريب - على أداء رجل الأمن في الميدان، وعلى إحساسه بعظم المسؤولية التي عُقِدَت على قافية رأسه.
إنّ ترقيةَ رجل الأمن إلى الرتبة المستحقّة، والتوجيه بصرف مستحقاته المالية المعلّقة، ثم التوجيه بدراسة إمكانية إسكانه، وتقديم أرقى وسائل الدعم الصحي له...، كلُّها ستفضي إلى واقع أمني أكثر تماسكاً وصلابة...، وهنا أودُّ الإشارة إلى جانب إيجابي جميل في هذه الأوامر الخاصة بالأمن، ألا وهو عدم التفريق بين الأفراد والضباط، والنظر إليهم على أنهم كلّ لا يقبل التجزئة.
ثمة جانب استثناء في هذه الأوامر الملكية، وهو أن اللغة التي استخدمت في صياغتها كانت أقلّ من محتواها، بمعنى أن ما سيجري على الأرض أكبر بكثير مما أشارت إليه لغة الأوامر نفسها، وسأضرب هنا مثالاً بالأمر الأول الذي أشار إلى صرف راتبين لكلِّ موظّف، واكتفى بذلك دون الإشارة إلى اشتماله على المتقاعدين أيضاً، كذلك صرف مكافأتين لطلبة التعليم العالي، والاكتفاء بهذا رغم كونه يشمل الطلبة المبتعثين إلى الخارج - بنصّ كلام وزير المالية إلى القناة الأولى -.
نحن إذن أمام تجديد في لغة الأمر الملكي الخاص بالمواطنين يعبّر عنه التوجيه الملكي بعدم استخدام مصطلح المكرمة للتعبير عما تقدمه الدولة لمواطنيها، وأمام عملٍ أكبر لمعالجة وجوه البيروقراطية والفساد، وأمام صورة استثناء...، في نصفها الأول شعبٌ جميلٌ، وفي نصفها الآخر ملكٌ أجمل.
بقي أن أختم هذه المقالة بالإشارة إلى أنّ الذين تظاهروا - حساً أو معنى - ضدّ هذا الوطن سيفيدون من جملة الأوامر الملكية التي صدرت يوم الجمعة، فهم إما موظفون حكوميون أو متقاعدون فيحصلون على راتبين، وإما طلاب منتظمون في الداخل أو الخارج فيحصلون على مكافأتين، وإما عاطلون فيحصلون على إعانة شهرية...
لك الله أيها الوطن الجليل...
لك الله أيها الشعب الجميل...
لك الله أيها الملك الأجمل...
خالد بن أحمد الرفاعي -عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية -جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض