الذين قالوا: «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» رصدوا حقيقة معرفية دون أن يفسروها، وربما لم يجتهد في التفسير كل الذين اشتغلوا بالتعليم أو التخطيط له في كل البلاد العربية، هذا ما تكشفه مصطلحات التعليم ومناهجه على الأقل: «النصوص والمحفوظات» ..»الواجبات» المنزلية أو المدرسية .. «الاستذكار» إلى آخر ذلك، مما يعني اختزال العملية التعليمية في آلية محددة للتعليم... خزانة فارغة في رأس الطالب أو الطالبة، ترص فيها المعلومات المحددة يوماً بعد يوم حسب المرحلة الدراسية، ويعاد التأكيد على ثبات المخزون بالواجبات والمراجعات، ثم لا بأس أن تكنس أرض المستودع في الرأس بعد امتحانات نهاية العام.. هذا معناه أن التعليم «تراكم معلوماتي» قابل للإزاحة، وليس «تراكماً معرفياً» يظل قابلاً للإضافة ليصنع «الخبرة»..
من هذا الفارق بين التراكم المعلوماتي والتراكم المعرفي راودتنا (فكرة التعلم بالمشاريع)، فالتراكم المعلوماتي لا يصنع أديباً أو فناناً، أو مثقفاً أوعالماً أو مالكاً لرؤية وإن صنع «موظفاً «ولهذا السبب لم يعرف العالم مدرسة يتخرج فيها الروائيون أو الشعراء أو كتاب القصة، أو العلماء المخترعون فمثل هذه الموهبة تحتاج إلى «تشغيل نشط لكل الخبرات المعرفية التي تكتسب يوماً بعد آخر ولا تتوقف مع انتهاء مرحلة تعليمية قلنا من هذا الفارق راودتنا فكرة (التعلم بالمشاريع) وهي مشروع تعلم تطبيقي موجه ذاتياً يعتمد على عمل التلميذات مستعيناً بخبراء المجتمع لاستكمال الأساليب التقليدية المتبعة داخل الغرف الصفية لتتقاسم المشاركات عملية التعلم باللقاءات المباشرة أو التواصل عن بعد أو عن طريق البريد الإلكتروني مع الخبير والخروج بنتاج مادي للمجتمع الواقعي بحيث يستمر هذا التعلم مع التلميذة مدى الحياة، فكان درس القصة في مقرر الإنشاء أنموذجاً لهذا التعلم إذ لو سألنا طالبة أو طالباً عن فكرته عن «القصة القصيرة» لأجاب بما لا يخرج عن كون «القصة» حكاية أو حدوتة تتسلسل فيها الأحداث، فلو بدأنا نحدثه عن جذور القص في التراث العربي لاستمع على مضض، فإذا بدأنا نحدثه عن تيارات حديثة في القصة العالمية وذكرنا له بعض أسماء أعلام كل اتجاه لاكتشفنا أننا كنا نتكلم إلى أنفسنا طوال الوقت وأن مستمعنا العزيز قد لاذ بفرار يحفظ له عقله..
ولكن حين طرحنا هذه التجربة بأن تربط الطالبة في ذهنها بين كلمة «القصة» وبين أعلام هذا الفن، من كتابه ونقاده من السعوديات، وهيأنا لهن فرصة اللقاء والحوار والاستماع وجهاً لوجه إلى القاصة المميزة أميمه الخميس أدهشنا كيف بدأن يغزلن الحروف قصصاً ويكشفن عن رغبة قوية أن يصبحن قاصات تملأ قصصهن أرفف المكتبات ويتسابق إليها القراء واكتشفنا نحن أن بداخل وجدان تلميذاتنا فنانات مبدعات لم يجدن -من قبل- فرصة التعبير عن أنفسهن.
قياساً على التجربة وبذل الجهد والوقت من الرائعة الأديبة الأستاذة أميمة الخميس خلال ورش عمل (كتابة القصة القصيرة) التي أقامتها تطوعاً في مدارس البديعة نكاد نجزم ونبشر بأسماء مئات من كاتبات القصة القصيرة من خريجات مدارسنا.. وقياساً على ما لمسناه من تشجيع جريدة الجزيرة الغراء وإفرادها المساحات لنتاج التلميذات يتضاعف بداخلنا اليقين، ها هي التجربة ( بل أول الغيث) أمام القراء، مجموعة من قصص تلميذات مدارس البديعة نقول -ونحن نقدمها- أن تجربتنا، وتشجيع المسؤولين ابتداء بتجاوب سعادة مدير عام التربية والتعليم بالرياض ورعاية مديرة مكتب التربية والتعليم بالبديعة الأستاذة هيا أبانمي وحماس الأديبة أميمة الخميس وبذلها الوقت والجهد، ووعي الجزيرة رئيس تحريرها الأستاذ خالد المالك ومشرف صفحاتها الثقافية الأستاذ إبراهيم التركي ونتاج تلميذاتنا الصغيرات كل هذا يشكل تصفيقا مدويا بيد واحدة، أما اليد الأخرى الضرورية لتمام التصفيق فهي استجابة الجهات المسؤولة عن التعليم وعن الثقافة وعن الشباب في تبني تجارب جديدة كهذه كي تستمر «فعالية» منتجة، لا مجرد «صرعة» وربما آن ذاك تغير شيء هام في تفاصيل خارطتنا الثقافية.
وحدة اللغة العربية بمكتب التربية والتعليم بالبديعة