الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
فإنه في وقت الفتنة, وأيام المحن تضيق النفوس, وتضطرب المناهج, ويختلف الناس في مواقفهم منها, والفتن والابتلاءات سنة إلهية, قدرها الله لحكم قد تدرك وقد لا تدرك, والمسلم في سيره إلى الله, وفي تعامله مع هذه الفتن بحاجة إلى أن يتعرف على السنن, ويعلم المنهج الشرعي للنجاة منها, ويعتصم بمنهج الحق منهج أهل السنة والجماعة, لئلا يسقط فيها, ورأس الفتن والبلايا والشرور, وأساسها فتنتان عظيمتان: فتن الشبهات وفتن الشهوات, والأولى أعظم وأمكن أثرًا, وأشد خطرًا وضررًا, وقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من توارد الفتن, فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضها, وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى له», وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا», وقال - صلى الله عليه وسلم - من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا, فأي قلب أُشرِبَها نكت فيه نكتة سوداء, وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض, والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه».
يقول ابن القيم - رحمه الله - على هذا الحديث: «فشبّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير, وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا, وقسّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب الإسفنج الماء, فتنكت فيه نكتة سوداء, فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس,.. فإذا اسودَّ وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطيران متراميان به إلى الهلاك,
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا, وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا, والسنة بدعة والبدعة سنة, والحق باطلاً والباطل حقًا, الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقياده للهوى اتّباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه, فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها, وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات, فتن الغي والضلال, وفتن المعاصي والبدع, فتن الظلم والجهل, فالأولى توجب فساد القصد والإرادة, والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد».
ومن هنا وجب علينا أن نستقرئ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنستبين معالم المنهج الشرعي للتعامل مع الفتن, وطريق الخروج منها, كي نسلم من مضلات الأهواء والأدواء.
وإن من يتأمل واقعنا, وينظر إلى حالنا يجد ظهور الفتن وانتشارها, وسرعة جريانها بين الناس, زل فيها كثيرون, ونجي منها الموفقون, فعملوا بشرع الله, ونصحوا لله, ولأئمة المسلمين وعامتهم, فوفقهم الله للخيرات: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (269) سورة البقرة.
وإن من أبرز ما فتنت به المجتمعات المسلمة في عصرنا الحاضر ما يسمى ب»المظاهرات والاعتصامات», وما جرته على المجتمعات من بلايا وشرور, وخروج على الحكام والولاة, وما سببته من سفك للدماء, وانتهاك للحرمات, وتدمير للممتلكات، وترويع للآمنين، وزرع للفتنة والخوف والشقاق والاختلاف، وإضعاف للأمن والاقتصاد والتقدم في جميع المجالات, باسم حقوق الشعب, وباسم الإصلاح والتغيير زعموا, فذهبوا يدمرون ويفسدون, وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا, وقدمت هذه الفتن في قالب يعتمد الشبهة والشهوة, فمن حيث إثارتها وإشاعتها وتقديمها هو بقالب شهوة تستدعي الانجراف فيها بناء على ملامستها لشهوات الناس, وتنطلق في تبريرها وتسويغها بشبه يكتنفها عدد من الانحرافات, حتى التبس الأمر على كثير, وانقلبت الموازين, وإن هذه المظاهر التي لم يعهدها التأريخ الإسلامي عبر العصور كوسيلة للتعبير عن المطالب والحقوق, وإنما بلاء استورد من بيئات مختلفة, وتلقفته طوائف ترى مصلحتها في مثل هذه الانقسامات, وفي مثل هذه الظروف يجب علينا أن نتلمس العواصم من هذه الفتن القواصم, وأن نعتمد الأصول الشرعية والنصوص الظاهرة والمقاصد الأكيدة, وننحي العواطف, وننأى عن الأهواء والاحتكام إلى مجرد العقول دون النظر في الأصول, فهذه الفتن خطر على الوحدة الوطنية, والأمن, وقبل ذلك الدين, وتعظم الفتن حينما يأتي من يصور المسألة بطريقة الشبهة, ويعرضها على أنها مصالح, وأن الأسلوب السلمي - كما زعم - يخرجها عن الخروج المسلح, أو عن وصف الخروج عمومًا, بل وأبلغ من ذلك حينما يسفه رأي العلماء, وتتجاوز كلمتهم, وتطرح مثل هذه المسائل الخطيرة بتأثير عاطفي بحت, يقصد به دغدغة مشاعر الناس تجاه حظوظهم ورغباتهم وحقوقهم بهذه الأساليب, ويتعرض للرأي الثاني وكأنه شذوذ من القول, وهكذا تلعب الأهواء دورًا رئيسًا في إذكاء نار الفتن, وتمريرها بلبوس شرعي, واستغلال ما يدعونه نجاحات تحققت في دول مجاورة, وكأنها حقائق وكأنها انتصارات, وتجعل آثارها معتمدًا لبيان الحكم, وهكذا تدلهم الفتن, ويستغل المجتمع والشباب خصوصًا للمشاركة فيها, ولذا فإن هذه الأحداث والفتن وتداعياتها توجب على الناصح لدينه وأمته ووطنه, والحافظ لحدود الله أن يشارك بما يستطيع, انتصارًا لله, وحفظًا لحدود الله, كيف لا وهي من الجهاد في سبيل الله, جهاد بالقلم واللسان والبيان, حتى تقوم الحجة, ويظهر الحق واضحًا أبلج, فأقول وأسأل الله التسديد فيما أقول:
إن المظاهرات، وحمل الرايات والشعارات، وإشعال نار الفتنة والتخريب ليست من دين المرسلين، ولا من منهج السلف الصالحين, بل هي من أساليب الغوغاء والمفسدين, أرادوا الإصلاح بطريق الفساد, والبناء بطريق الهدم, حتى أضحوا سببًا لخراب الشعوب وفساد الأمم.
إن كثيرًا من المظاهرات أول ما تظهر تستهوي الناس وتجذبهم بجمالها البراق الخادع, والذي تخفي تحته الهلاك والدمار، كالحية الملساء التي تخفي بين أنيابها السم الزعاف، فتستهويهم الفتن والمظاهرات بإزاحة الطغاة، والحصول على الدنيا، أو الدين، ثم تطحنهم برحاها وتضرسهم بأنيابها وحينها لا يستطيعون الخروج، ولات حين مناص. وأصحاب هذه الفتن التي مؤداها وغايتها وأساس ثورانها الخروج على حكام المسلمين, ولكنهم يمررونها بمسوغات ومبررات, ويطرحونها على أنها من الأساليب الشرعية والحقوق المشروعة, وأن ما يتحقق بها هو من إنكار المنكر, ونسوا وتناسوا وغفلوا بل ربما تعمدوا إغفال مفاسد بل طوام كبرى تنتج عن هذه التصرفات المنكرة, والأفعال المفسدة التي لو لم يكن منها إلا ما يأتي:
1- أن لها سلبيات كثيرة سواء السلمية أو غير السلمية، أعظمها: قتل النفوس، وانتهاك الأعراض، وتدمير الممتلكات، وترويع الآمنين، وزرع للفتنة والخوف والشقاق والاختلاف، وإضعاف للأمن والاقتصاد والتقدم في جميع المجالات, وهذه لوازم لا يمكن الانفكاك عنها مهما طرح أولئك, ولا يمكن لأحد أن يغفل أعداد الضحايا التي سقطت ولا تزال حينما تقع هذه المظاهرات.
2- أنها تفتح باب الشرور بالمطالبة بكل شر وضلال, من شرك وبدعة ومعاصٍ ومنكرات وغيرها من الضلالات؛ لأنها اعتداء على سلطة ولي الأمر, ويعتبره دعاة الفتن انتصارًا يفرضون به ما يريدون, ولا يخفى أنها تجمع طبقات متفاوتة, وتوجهات مختلفة, وأيدلوجيات متباينة, وكل يريد ما يراه حقًا.
3- أن المظاهرات، وحمل الرايات والشعارات، وإشعال نار الفتنة والتخريب ليست من دين المرسلين، ولا من طرائق المجاهدين، وقد مرّ أنبياء الله تعالى بأزمات ومواقف مع عددٍ من الطغاة والجبابرة، وهم قتلة الشعوب، وحفار الأخاديد، ومن أتوا على الأخضر واليابس في الأرض، ومع ذلك ما حمل الأنبياء ولا أتباعهم الخرق والشعارات، ولم يحرقوا في الأخشاب بله أن يحرقوا أنفسهم شجبًا واستنكارًا كما يصنعه الخرقى اليوم, وظهر في عصور مختلفة أنواع من الحكام أتوا مفاسد متباينة عايشها العلماء والعبّاد والصالحون المصلحون في زمنهم, فلم يثبت أن أحدًا منهم دعى إلى مثل هذه الأساليب المنكرة, مع أن الذهن يفرضها, وعادات الأمم الأخرى لا تخلو منها.
4- أنها نوع من الخروج على الحكام مهما طرح شخص لإخراجها عن هذا المقصد, والصورة تعد خروجًا, لأنه ليس من شرط الخروج حمل القوة وإشهار السلاح أو التجمع, بل قرر العلماء أن إنكار المنكر على الحكام علانية يعد من الخروج عليهم, وقد سئل الشيخ العلامة ابن باز - رحمه الله -: «هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟» فأجاب - رحمه الله -: «ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة, وذكر ذلك على المنابر; لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير», فكيف بمثل هذه المظاهرات والاعتصامات, ولنتأمل حديث ذي الخويصرة التميمي لما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «يا رسول الله اعدل!», فقال: «ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل, لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل», فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه», فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم, يقرؤون القرآن لا يجوز تراقيهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية, يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان, لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد», فإن المراد بقوله: «يخرج من ضئضئ هذا» أي: على منواله وشاكلته ومنهجه وطريقته, مع أنه لم يحمل قوة ولا عتادًا, وإنما واجه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي قسم باعتبار ولايته وحكمه ما قسم, وهذا يؤكد أن مثل هذه التصرفات خروج, ولو مررت بالأساليب السلمية كما زعموا.
5- أن فكرتها وطريقتها إنما وفدت من بلاد غير إسلامية, والدعاة إليها ومروجوها لا ينفكون عن ذلك, فيلزمهم أن يروها أمثل من الصور المشروعة التي جعلها الشرع وسائل لإنكار المنكر, ومناصحة الولاة, كالمناصحة السرية, والمكاتبة, وإيصال المظالم عبر الطرق المتاحة, والمثير أنه في الوقت الذي يثار على الحكام الحكم بغير ما أنزل الله, وجعل هذا سببًا في عدم شرعيتهم يطرح مثل هؤلاء هذه الأساليب ويشرعنونها تحت هذه المبررات, وهل هذا إلا الهوى المذموم؟
6- نص العلماء الربانيون في هذه الأزمان على منع الدخول في المظاهرات وتحريمها، ومنهم: هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة برئاسة سماحة الشيخ ابن باز، وكذا فتاوى خاصة لسماحة الشيخ ابن باز، والشيخ الألباني، والشيخ ابن عثيمين، وسماحة المفتي، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ صالح اللحيدان، وغيرهم من أهل العلم.
7- لقد جاءت الأدلة الشرعية بإيجاب ما هو ضد هذه الصور والفتن من التماسك والاجتماع والألفة والوحدة, فقد دلت الأدلة الشرعية على السمع والطاعة لولي الأمر، وعدم منازعته والخروج عليه, والصبر على الأثرة كما سيأتي.
8- لم يدلَّ دليل واحد على جواز فعل المظاهرات, وكل ما ذكر هو من قبيل العواطف كما مرّ.
هذه المفاسد العظيمة التي تترتب على هذا الفتن والاعتصامات هل يحق لعاقل أن يوازنها بما يزعم من مصالح, ومنهج أهل السنة والجماعة اعتمادًا الموازنة بين المصالح والمفاسد, وترجيح ما يغلب مع تقديم درء المفاسد, يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - في منهاج السنة النبوية: «فإن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها», والواقع يشهد بأنها مصالح موهومة, وأن حشدها نوع من الهوى؛ لأن النجاحات المزعومة التي تتحقق بهذه الأساليب الغوغائية ربما تحصل أول الأمر, أو تكون جزئية, لكن الواقع شاهد بأن المصالح أعظم, وربما عاقبهم الله أحيانًا في المآل بنقيض قصدهم، كما قال عنهم ابن تيمية - رحمه الله - في منهاج السنة النبوية: «وغاية هؤلاء - أي: الذين يخرجون على ولي أمرهم - إما أن يُغلبوا, وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم, فلا يكون لهم عاقبة, فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا, وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور, وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم, فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا».أ.هـ.
ويقول - رحمه الله - في كلام بديع نفيس أيضًا: «وقل من خرج على إِمام ذي سلطان؛ إِلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير».
وقال في موضع آخر من منهاج السنة: «ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف, وإن كان فيهم ظلم, كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة», ثم قال - رحمه الله -: «ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته).أ.هـ
ويقول عبدالله بن عكيم: «لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان! فقالوا له: يا أبا معبد أوَ أعنت على دمه؟! فقال: إنّي أعدّ مساويه عونًا على دمه». (طبقات ابن سعد: 6-170).
قال ابن تيمية - في منهاج السنة النبوية - بعد إيراده نصوصًا كثيرة في الصبر على جور الأئمة وحاكيًا حال هؤلاء الذين خرجوا لأجل الدنيا، قال - رحمه الله -: «فهذا أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتال الخوارج وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة».
والقول بتحريم هذه الأساليب بناء على مفاسدها من باب تغليب المصالح الكلية, والحرص على حفظ نظام الأمة باستدامة الإمارة فيها, وتوجيه طاقات الأمة للمشاركة في حفظ الأمن واستقرار الأحوال وطمأنينتها, ولذا فكما مرّ أن جميع علمائنا يقررون ما سبق, ويرون أن هذه الأساليب تسبب شرورًا عظيمة, وعرضها ولو بأسلوب الخلاف الذي يطرحه بعضهم لتهوين شأن المسألة, وقبولها بمبرر قبول الآراء المخالفة من الخطر العظيم المخالف للنصوص الواضحة الجلية العظيمة التي تذكر أن أعظم عاصم من الفتنة هو لزوم جماعة المسلمين وإمامهم, ففي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عندما أخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ثمة شرًا يتمثل في دعاة على أبواب جهنم, وأنهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ», وعلى هذا فالدعوة إلى الخروج وتأليب الناس على حكامهم, وتأجيج العواطف هو من الدعوة التي وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها دعوة إلى نار جهنم, لأن وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابد أن تناسب ما ورد قبلها, ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - أوصى صحابته وصية المودع فقال: «أوصيكم بتقوى الله, والسمع والطاعة, وإن تأمّر عليكم عبد, فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل بدعة ضلالة», وقال في حديث آخر: «إنها ستكون أثرة, وأمور تنكرونها», قال الصحابة: يا رسول الله, كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم, وتسألون الله الذي لكم», وعظّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأن الاجتماع والولاية, وبيّن أن المخرج الصبر على ما يحصل, فقال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر, فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتة جاهلية», وقال الحسن البصري - رحمه الله -: «والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!»، ثم قال: «هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلاَّ بهم، وإن جاروا وظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأن فرقتهم لكفر». فهذه النصوص ليس المقصود منها ذات السلطان بقدر ما يقصد منها حفظ نظام الأمن واستقرار الأحوال, وحقن الدماء, وإبعاد الأمة عن الفوضى والدماء.
وأنقل هنا جملة من فتاوى علمائنا ونصوصهم, فهاهو سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى - يقول: «فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيء العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله، أو إثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات، ويلحق بهذا الباب ما يفعله بعض الناس من المظاهرات التي تسبب شرًّا عظيمًا على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة.
فالطريق الصحيح: بالزيارة، والمكاتبات بالتي هي أحسن فتنصح الرئيس، والأمير، وشيخ القبيلة بهذه الطريقة، لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات، ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم، واغتيالهم، ولا شك أن هذا الأسلوب يضر بالدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن، فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب، لكن يحصل به ضده، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها، أو يقضي عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله» أ.هـ (مجلة البحوث الإسلامية - العدد: 38صـ210), وسئل - رحمه الله -: «هل المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها يعتبر شهيدًا في سبيل الله؟». فأجاب - رحمه الله تعالى -: «لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج، ولكنها من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور، ومن أسباب ظلم بعض الناس، والتعدي على بعض الناس بغير حق. ولكن الأسباب الشرعية المكاتبة والنصيحة والدعوة إلى الخير، بالطرق السلمية، هكذا سلك أهل العلم، وهكذا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان، بالمكاتبة والمشافهة مع المخطئين ومع الأمير ومع السلطان، بالاتصال به ومناصحته والمكاتبة له، دون التشهير في المنابر وغيرها بأنه فعل كذا وصار منه كذا، والله المستعان». ويقول شيخنا العلامة محمد بن عثيمين في سؤال وجه إليه - رحمه الله تعالى -: هل تعتبر المظاهرات وسيلة من وسائل الدعوة المشروعة؟. فأجاب - رحمه الله -: «الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن المظاهرات أمر حادث، لم يكن معروفًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا عهد الصحابة رضي الله عنهم. ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمرًا ممنوعًا، حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها.. ويحصل فيه أيضًا اختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشيوخ، وما أشبه من المفاسد والمنكرات.
وأما مسألة الضغط على الحكومة: فهي إن كانت مسلمة فيكفيها واعظًا كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا خير ما يعرض على المسلم. وإن كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء «المتظاهرين» وسوف تجاملهم ظاهرًا، وهي ما هي عليه من الشر في الباطن، لذلك نرى أن المظاهرات أمر منكر.
وأما قولهم إن هذه المظاهرات سلمية، فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية، وأنصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وأثنى على الذين اتبعوهم بإحسان».
وسئل - رحمه الله -: «بالنسبة إذا كان حاكم يحكم بغير ما أنزل الله؛ ثم سمح لبعض الناس أن يعملوا مظاهرة تُسمى عصامية! مع ضوابط يضعها الحاكم نفسه، ويمضي هؤلاء الناس على هذا الفعل، وإذا أنكر عليهم هذا الفعل قالوا: نحن ما عارضنا الحاكم ونفعل برأي الحاكم، هل يجوز هذا شرعًا مع وجود مخالفة النص؟»
فأجاب - رحمه الله تعالى -: «عليك باتباع السلف، إن كان هذا موجودًا عند السلف فهو خير، وإن لم يكن موجودًا فهو شر. ولا شك أنَّ المظاهرات شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء؛ إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان؛ لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل! فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن.
وإذن بعض الحكام بها ما هي إلا دعاية، وإلا لو رجعت إلى ما في قلبه لكان يكرهها أشد كراهة؛ لكنْ يتظاهر بأنَّه كما يقول: (ديمقراطي!) وأنَّه قد فتح باب الحرية للناس! وهذا ليس من طريقة السلف».أ.هـ من لقاء الباب المفتوح.
أما الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - فقد قال في سلسلة الأحاديث الضعيفة تحت حديث قصة إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وخروجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صِفيّن؛ ضد المشركين، قال مبيِّنًا درجة الحديث: «منكر», ثمَّ قال: ولعلَّ ذلك كان السبب، أو من أسباب استدلال بعض إخواننا الدعاة على شرعية (المظاهرات) المعروفة اليوم، وأنها كانت من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة! ولا تزال بعض الجماعات الإسلامية تتظاهر بها، غافلين عن كونها من عادات الكفار وأساليبهم. أ.هـ من سلسلة الأحاديث الضعيفة.
وسئل - رحمه الله تعالى -: «ماحكم هذه المظاهرات؟ مثلاً يجتمع كثير من الشباب أو الشابات ثم يخرجون إلى الشارع؟» فقال الألباني رحمه الله: «والشابات أيضاً؟» السائل: «نعم», فقال الألباني: «ما شاء الله!!», السائل: قد حدث هنا، يخرجون إلى الشوارع مستنكرين لبعض الأفعال التي يفعلها الطواغيت أو لبعض ما يأمر به هؤلاء الطواغيت أو ما يطالب به غيرهم من الأحزاب الأخرى السياسية المعارضة، ماحكم هذا العمل في شرع الله؟
فأجاب بجواب طويل ومنه قوله رحمه الله: «هذه التظاهرات التي كنا نراها بأعيننا في زمن فرنسا وهي محتلة لسوريا, ونسمع عنها في بلاد أخرى وهذا ما سمعناه الآن في الجزائر، لكن الجزائر فاقت البلاد الأخرى في هذه الضلالة وفي هذا التشبه، لأننا ما كنا نرى أيضًا الشابات يشتركن في التظاهرات، فهذا منتهى التشبه بالكفار والكافرات، لأننا نرى في الصور أحيانًا وفي الأخبار التي تذاع في التلفاز والراديو ونحو ذلك خروج الألوف المؤلفة من الكفار سواء كانوا أوربيين أو صينيين أو نحو ذلك.. يقولون في التعبير الشامي وسيعجبكم هذا التعبير، يخرجون رجالاً ونساء (خليط)، يتزاحمون الكتف بالكتف وربما العجيزة بالقبل، ونحو ذلك، هذا هو تمام التشبه بالكفار، أن تخرج الفتيات مع الفتيان يتظاهرون، أنا أقول شيئًا آخر بالإضافة إلى أن التظاهر ظاهرة فيها تقليد للكفار في أساليب استنكارهم لبعض القوانين التي تفرض عليهم من حكامهم أو إظهار منهم لرضا بعض تلك الأحكام أو القرارات، أضيف إلى ذلك شيئًا آخر ألا وهو: هذه التظاهرات الأوربية ثم التقليدية من المسلمين، ليست وسيلة شرعية لإصلاح الحكم وبالتالي إصلاح المجتمع، ومن هنا يخطئ كل الجماعات وكل الأحزاب الإسلامية الذين لا يسلكون مسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في تغيير المجتمع، لا يكون تغيير المجتمع في النظام الإسلامي بالهتافات وبالصيحات وبالتظاهرات، وإنما يكون ذلك على الصمت وعلى بث العلم بين المسلمين وتربيتهم على هذا الإسلام حتى تؤتي هذه التربية أكلها ولو بعد زمن بعيد، فالوسائل التربوية في الشريعة الإسلامية تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التربوية في الدول الكافرة، لهذا أقول باختصار إن التظاهرات التي تقع في بعض البلاد الإسلامية أصلا هذا خروج عن طريق المسلمين وتشبه بالكافرين وقد قال رب العالمين: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء». أ.هـ كلامه رحمه الله.
وبعد: فهذه صيحة نذير, وصرخة تحذير أن نستجر في هاوية الفتن والانقسامات والفوضى والاضطرابات, تحت مبررات واهية, ففي الوقت الذي ننكر فيه الظلم والفساد, وينكره كل مخلص محب لله ولدينه, إلا أننا ننكر جرّ الأمة إلى ويلات الفوضى والاضطرابات والانقسام, والرأي العام حين يهيجه دعاة السوء يوقض الفتن النائمة, ولعن الله من أيقظها. وإذا نظرنا إلى بلادنا الآمنة, ووطننا الحبيب المملكة العربية السعودية نجد أنها ولله الحمد تمثل فيها منهج الشريعة الغراء, وإحقاق الحق وإرساء دعائم العدل, وننعم فيها بنعم عظيمة, وآلاء جسيمة, ولاية راشدة, وقيادة حكيمة, وأمن وارف, ورغد في العيش, وتطبيق لشرع الله على الصغير والكبير, وملكينا المفدى, وإمامنا المبارك خادم الحرمين الشريفين أعلن منذ توليه الحرب على الفساد, والسعي في الصلاح والإصلاح, وتحقق الكثير من ذلك, وما يكون من أمور يراها البعض من النقص أو الفساد فهي جزئيات منغمرة في ظل هذه الصورة المثالية, أفلا يتقي الله من يسعون لتقويض هذه الألفة واللحمة؟! ومن المستفيد من هذه الدعوات المضللة؟!!
لقد أثبتت لغة الأرقام والإحصاءات أن بلادنا من أمثل بلاد الله, كما رصت لغة التقنية أن من يحركون هذه الفتن هم دعاة الشر والفتنة ممن يخدمون أعداء الله بهذه الأعمال المشينة, فهل يرضى الشاب العاقل أن يسلم نفسه للشيطان, وأن يكون معول هدم, وأداة إفساد في بلاد الحرمين؟! لكن كما قال الله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (8) سورة فاطر.
وبعد فإننا نحتمي بالله, ونعتصم به, ونسأله سبحانه أن يحفظ بلادنا من كل سوء, وأن يرد كيد المفسدين, وعدوان المعتدين, وفساد المضلين في نحورهم, وأن يجعل جهدهم في تباب, وأن يوفق ولاة أمرنا إلى كل خير, ويديم علينا نعمة ولايتهم, إنه سميع مجيب,
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية